عندما نتحدث عن عالم المهن واستحقاقات العمل الجيد فإننا نركز، ولنا الحق في ذلك، على الكفاءة والصنعة والجدية. وكما نرى فهي خصال أساسية تمكن صاحبها من النجاح في مهنته، والمجتمع يستفيد من عمله وكفاياته.

ولكن هل هذا كل ما يستلزمه العمل بالنسبة إلى كل المهن؟ هل هذه الشروط هي نفسها المطلوبة ولا شيء غيرها؟

نظرياً وعملياً وموضوعياً فإن شروط الكفاءة والجدية والمهارة كافية جداً. بل إن توفر هذه الشروط الثلاثة مجتمعة يعد حظاً كبيراً وإنجازاً في عالم أصبح فيه التقاعس والرغبة في الربح السريع والوصول إلى الثروة، الغاية والوسيلة معاً.

في الحقيقة كل هذه الديباجة في وضع شروط العمل والنجاح في ممارسة أي مهنة لا غبار عليها وتظل منتهى ما يمكن تحقيقه.

غير أن التجربة في المجتمع وأخذ خبرة عامة حول مفاتيح النجاح في المهن وتوزيع المهن حسب القطاعات والمجالات وطبيعة الفئات التي تُسدَى لها الخدمات قد تحتاج إلى وضع بعض الإضافات، أو لنقل إضافة شرط إلى خانة معينة من المهن.

طبعاً هذا الشرط لا صلة له بامتلاك اللغة الإنجليزية ولا بضرورة التمكن من استعمال تكنولوجيا الاتصال والإبحار في العالم السيبراني. هو شرط لا يخطر على البال ولا يمكن للنظريات أن تتفطن له. شرط هو ثمرة الخبرة في الحياة والاطلاع على عوالم المهن ذات الصلة بالعمل الاجتماعي مع الفئات الاجتماعية المهمشة والفاقدة للسند أو هي في حالات تهديد. إنه شرط الطيبة. العمل مع الفئات الاجتماعية الضعيفة والموجوعة اجتماعياً لا يمكن أن يقوم به وينجح فيه إلا الطيبون فقط.

في عالم الأطفال وكبار السن الفاقدين للسند تحتاج إلى أشخاص لهم من النبل ما يجعلهم يفكرون خارج التوقيت الإداري للعمل وخارج الواجب المهني المحدد. تحتاج إلى أشخاص يتورطون بسرعة عاطفياً ويصبح الطفل اليتيم وغيره الفاقد للسند والمتخلى عنه وكبير السن الوحيد المحتاج... كلهم معنيون بهم ويهمهم متابعتهم والسهر على راحتهم وتفهم حتى توترهم ومزاجهم المتقلب باعتبار أن أسرهم لفظتهم وانكسروا اجتماعياً وأصابهم الوجع الذي لازمهم.

إن التعاطي مع هذه الحالات يتطلب نفساً واسعة وصدراً رحباً وقلباً طيباً يشعر بهم ويفهمهم ويتفهم حتى تجاوزاتهم. لذلك فهي ليست مهناً للجميع ولا يمكن لأي مؤسسة ترغب في انتداب إطارات للعمل في مراكز إيواء أو رعاية أن تدرج مثل هذا الشرط صراحة، بل إن الذي يترشح لمثل هذه الخطط هو المطلوب منه أن يتحاور مع نفسه مطولاً وأن يعدد مشاق العمل في المجال الاجتماعي الهش وأن يكون مستعداً لفناء حياته المهنية في خدمة فئة هشة من دون أن يتذمر أو تكون تلك المهنة سبباً في جني أفعال يحاسب عليها في الدنيا والآخرة.

من هذا المنطلق، فإن الذاهب إلى عوالم الفئات الهشة للعمل ورعايتها ليعلم أنه في عالم مفاتيحه الطيبة، والنبل، وحبّ الإحسان والخير.

من جهة ثانية، من المهم بالنسبة إلى الدول أن تضع أطراً مهنية خاصة للعاملين في خدمة الفئات الهشة وأن تتعاطى مع هذه المهن بوصفها شاقة وتستنزف العاملين فيها بدنياً ونفسياً. ففي عوالم كبار السن المتخلى عنهم والأطفال ضحايا التقصير والإنجاب خارج إطار الزواج توجد خلاصة الخيبات والفشل الاجتماعي، أي أن العاملين في هذه العوالم يتعاملون مع نفسيات هشة مدمرة تجر آلاماً وخيبات ومشاعر مختلطة من الغضب والحرمان والاحتقان. هم باختصار في أوساط غير طبيعية لأن مسار حياتهم وظروفهم غير طبيعية، الشيء الذي يتطلب قدرة على التحمل وكفاءة نفسية معرفية في التعهد بهم ومرافقتهم.

وعملياً المطلوب من المشرعين في مجال العمل، التعاطي بخصوصية مع العاملين في القطاعات الاجتماعية الهشة، بخاصة أن عدد المهمشين في العالم في تزايد، حيث ارتفاع نسب الطلاق وظاهرة التخلي عن الأبناء والعنف وتراجع تأثير ودور مؤسسات الأسرة لصالح تنامي الفردانية، إضافة إلى ما خلفته التوترات والحروب والصعوبات الاقتصادية من أيتام وأرامل وكبار سن ومرضى وأصحاب إعاقات... ونعتقد أننا فعلاً أمام نوع من المهن يستحق أن نطلق عليه توصيف المهن الشاقة، وبناء عليه تخضع هذه المهن إلى عدد معين من ساعات العمل ومن مكافآت مالية جاذبة للعمل في بيئة ترى فيها قبح المجتمع والإنسان وماذا يمكن أن يفعل في الأطفال والمسنين والمهمشين.