قبل ثورة فبراير (شباط) 2011، كان حلم أغلب الليبيين أن تتحول مدن بلادهم إلى مدن أبهى من مدن أوروبا على شواطئ ليبيا الساحرة. كانوا يكثرون من السفر إلى الخارج، ويعودون منبهرين بما شاهدوه من عمران ونهضة في جميع المجالات. وبعد قيام ثورة فبراير 2011 وتخلصهم من النظام السابق، شعروا بأنَّ الوقت قد حان لتحقيق الحلم. وبدلاً من ذلك، رأوا بأم أعينهم كيف تحوّل الحُلم إلى كابوس يعيشونه يومياً فعلياً وواقعياً، وكيف انحدرت بلادهم سريعاً نحو هاوية سحيقة، حتى أضحت، في سنوات قليلة، أقربَ ما تكون إلى صومال آخر، منهكة بالخراب ومثخنة بالحروب، وبالنهب والسلب، وما زالت تُنْهَب بالمليارات صباحاً ومساءً، ومهددة بالتقسيم.

في الآونة الأخيرة، وبعد التخلص من الإرهاب الإسلاموي، بدأت حركة عمران وإعمار نشطة في المنطقة الشرقية، نتيجة الاستقرار النسبي الذي توفر في المدن والبلدات والقرى. ذلك الاستقرار كان نتيجة خضوع المنطقة لسيطرة المشير خليفة حفتر، وعدم وجود جماعات مسلحة أخرى تتحارب على الاستحواذ على الثروة والسلطة، أو تشاركه في صنع القرار. وأدّى ذلك إلى قيام حركة عمران في المدن الشرقية، أضحت مثار غيرة كثير من الليبيين في المناطق الغربية، الخاضعة لسيطرة الجماعات المسلحة.

وواضح ممَّا نشاهد من صور في وسائل الإعلام، ومن أشرطة مسجلة تبث في وسائل التواصل الاجتماعي، أنَّ الإعمار في مدينة بنغازي، على وجه الخصوص، يسير على نسق معيَّن. وتمّ ذلك على وجه السرعة، بشكل أثار إعجاب البعض وغضب البعض الآخر. سبب الغضب، أن عملية البناء والتشييد قامت على أنقاض أحياء شعبية قديمة وتاريخية، عُرفت واشتهرت بها المدينة. وما اطلعت عليه من معلومات يؤكد أن حركة العمران متواصلة، وصُممت خطط لإنشاء منطقة تجارية حرّة في المريسة. وذات المعلومات تؤكد في المحصلة أنَّ النية تتجه إلى تحويل بنغازي إلى مدينة ترفل في الأبراج على الساحل الشمالي الأفريقي. وأن شركات تشييد وبناء عالمية، أبرمت عقوداً وستتولى المهمة.

السيرُ على خطى نسخ مدن بعينها في التشييد والعمران من دون الأخذ في الاعتبار مراعاة الشروط والظروف التاريخية الليبية والموروث الثقافي والتاريخي الليبي، يُثير علامات استفهام حول المسألة العمرانية، ويضعها في خط سير تاريخي غير طبيعي، اصطناعي تحديداً، معلق في الهواء، ومن دون أي أساسات أرضية ومشوّه الملامح. وفي رأيي، فإن الشروط والظروف التاريخية غير متحققة في ليبيا، لاختلاف التاريخ والجغرافيا.

والسير على خطى هذه المدن نفسها المقامة على نمط التغول الرأسمالي لا يناسب ليبيا تحديداً، ومن المحتمل أن يقود إلى فتح أبواب البلاد أمام نوعية من الشركات الرأسمالية المتوحشة، التي تأتي على الأخضر واليابس في كل مكان تدخله.

نحن لسنا ضد عمران أي بقعة في ليبيا. وحلمنا أن نرى بلادنا وقد منَّ الله عليها بالسلام والاستقرار، وتحولت إلى جنّة على الأرض مستفيدة من ثرواتها الطائلة. لكننا لا نتردد في إبداء رأينا في الكيفية التي يتم بها الإعمار، ونرفض ألا تأخذ في اعتبارها الإرث الثقافي والتاريخي والاجتماعي الليبي، وقيمه وتقاليده وأخلاقه وأحلامه. وفي الوقت ذاته نحيّي بحرارة كل عمران يأخذ في اعتباره تشييد مُركبات ثقافية عصرية، ومدارس وجامعات تعمل على رفعة الإنسان الليبي تربوياً وفكرياً وثقافياً، في عملية بناء متكاملة الأبعاد، تسير يداً بيد مع تشييد الجسور والكباري والأسواق التجارية والطرق.

نحن في ليبيا أمام فرصة تاريخية قد لا تتكرر، يتوجب علينا ألا ندعها تفلت من بين أيدينا، تتيح لنا، إن أحسنّا توظيفها، بناء وتشييد ليبيا جديدة، مميزة بإرثها الثقافي والمعماري والتاريخي، وليس نسخة من مدن أخرى على الساحل الشمالي الأفريقي.