ننتمي اليوم إلى عالم معولم تتغير قواعده بسرعة، ونعيش أكثر من أي وقت مضى تحت سقف واحد؛ ويعرف الضالعون في العلاقات الدولية أن العالم لم يكن يوماً قارّاً أو ساكناً فانتفض فجأة... لا! ولا الكرة الأرضية على ثبات وإذا هي تتحرك فجأة! ولكن العالم يتراءى لنا وهو يتغير بسرعة كبيرة وبوتيرة أعمق، ولم يستقر على حال يمكن أن يوصف بالديمومة أو الثبات؛ والنتيجة أن الحيرة تصيب المحللين عندما يريدون إجراء تحليل واقعي لنظام إقليمي أو دولي هما في جوهريهما متغيران وانتقاليان على الدوام؛ ويجد المتتبعون أنفسهم أمام محدودية تلك النظريات في مجال العلاقات الدولية التي تذبل قبل جفاف الحبر الذي كُتبت به، والأفكار التي تولَد ميتة؛ والنتيجة أن رؤية المستقبل صعبة جداً، وتحديد معالمها أصعب مما يمكن تصوره؛ والعالم أصبح أكثر ضبابية مع انتهاء الحرب الباردة ونهاية الثنائية القطبية وظهور القوة الاقتصادية متعددة الأقطاب، وتطور مجال العلاقات العابرة للحدود الوطنية، وهي تشمل أطرافاً فاعلين ليسوا دولاً، كالمصرفيين الذين يحوّلون الأموال إلكترونياً، والإرهابيين الذين يتاجرون في الأسلحة، والمتسللين (القراصنة) الذين يهددون الأمن الإلكتروني، والتحديات التي تعد من قبيل الأوبئة وتغير المناخ من دون نسيان وجود بعض الفاعلين العسكريين كـ«فاغنر» الروسية في أفريقيا جنوب الصحراء؛ وأضحت هذه الرقعة الأخيرة أكثر نفوذاً وأكثر وجوداً وهي مؤثرة في النظام العالمي الجديد الذي يعد أكثر تعقيداً من أي وقت مضى.

ولا يخفى علينا جميعاً أن العالم العربي يتأثر بهذه التحولات العالمية قبل أن يتأثر هو نفسه بالتحولات العربية نفسها؛ إذ المشكل في العالم العربي هو أنه يقع في منطقة حساسة جداً، أي على موقع نقطة التقاء قارات ثلاث، وفي منطقة مرغوب فيها جداً. إذن محنة العرب الدائمة هي في تلك الإشكالية القائمة من جانب على تواضع عناصر القوة التي نتوفر عليها داخل النظام الدولي بسبب غياب الوحدة والتشرذم، ومن جانب آخر على وجودهم في موقع حساس بمعطياته الجغرافية والاقتصادية والدينية؛ فالجانب الثاني ليس بمشكل في منظور قواعد الاستراتيجية والتمركز داخل النظام العالمي ولكنه يغدو مشكلاً في غياب الوحدة، وهذا ما عاشته منطقتنا وما تعيشه اليوم وما ستعيشه إذا لم تصلح آليات التعاون المشترك، ولا يظنن ظانٌّ أن هذا التعاون يجب أن يكون سياسياً، فهناك عوامل متعددة تحقق الرخاء للمجموعات الإقليمية وعلى رأسها التربية والعلوم والثقافة، التي يجب أن تكون الشغل الشاغل للفاعلين في العلاقات الدولية وعلى رأسها المنظمات الدولية والإقليمية.

أكتب هذا الكلام لأنني أُعجبت أيَّما إعجاب بما يقوم به الدكتور الشاب سالم بن محمد المالك، مدير عام منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو)، الذي مُنح مؤخراً في حفل كبير بمدينة نابولي الإيطالية، جائزة البحر الأبيض المتوسط الشرفية لعام 2024، التي تمنحها مؤسسة دول العالم المتحدة لشخصيات دولية أسهمت بأعمالها الجليلة وجهودها الحثيثة في تطوير الثقافة والتربية والعلوم وترسيخ قيم التعايش والسلام حول العالم.

وقد قُلت في كلمتي بصفتي عضواً دولياً في لجنة الجائزة التي يعدها كثيرون «نوبل منطقة البحر الأبيض المتوسط»، إن الدكتور المالك أجاد في قيادة منظمة «إيسيسكو» التي تضم في عضويتها 53 دولة، لتصبح منظمة إبداعية ترسّخ قيم السلام والتعايش والمحبة والوئام، في دولها الأعضاء ودول العالم؛ فاستراتيجيته مبنيَّة على مأسسة آليات التعاون المشترك بين دول المؤسسة العضوة وضرورة النظرة المستقبلية إلى الأمور وما يخدم الدول في مجالات التربية والعلوم والثقافة لأنها الدينامو لتنمية وتطوير المجتمعات وتحقيق الرخاء المعرفي وبناء المجتمعات الثقافية الحديثة وتحقيق الوحدة؛ ولا أدلَّ على ذلك من تبني المجلس التنفيذي المنعقد في مدينة أبوظبي في 29 - 30 يناير (كانون الثاني) 2020م والذي فوضه المؤتمر العام الاستثنائي المنعقد في مدينة الملك عبد الله الاقتصادية في 9 مايو (أيار) 2019م بجميع صلاحياته.

وقد مضت «إيسيسكو» ‏خطوةً أعمق أثراً عبر احتفائها بشرائح تحتاج منَّا إلى جهود وتعزيز أقوى وأكثر جدية، وفي مقدمتها المرأة والشباب والطفل وذوو الاحتياجات الخاصة، حيث توالى في عامين متتاليين احتفال المنظمة بعامٍ كامل للمرأة وعامٍ آخر خُصص للشباب، وتمتد الترتيبات لاحتفالها بعام خاص لأطفال العالم، إيماناً بأن دروب السلم لن يؤمِّنها مثل الاهتمام بهذه الشرائح، استعادةً لأدوارها المحورية في البناء الإنساني.

ولي يقين أن هذه المنظمة ستصبح فاعلة في العلاقات الدولية من خلال حكمة المنتسبين إليها؛ والمنظمات الإقليمية والدولية الناجحة مثل «يونيسكو» وغيرها أصبح لها الدور الذي تضطلع به اليوم إلا لأنها أصَّلت وبَنَت قواعد التعاون المشترك التي تهم مستقبل الأجيال من خلال استراتيجيات دقيقة وأسس متينة.