عادل بن حمزة
"الحقيقة هي ابنة الزمن"
- فرانسيس بيكون
في مطلع أيار (مايو) الماضي، أعلنت وزارة التجارة التركية تعليق كافة المعاملات التجارية مع إسرائيل، على خلفية الأوضاع المأساوية في فلسطين، إذ اشترطت أنقرة السماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى غزة للعدول عن هذا القرار. ردّة الفعل الإسرائيلية لم تتأخّر طويلاً، إذ أعلن وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش في 16 أيار (مايو) 2024، أن إسرائيل ستلغي اتفاقية التجارة الحرّة مع تركيا، وسترفع الرسوم على الواردات التركية بنسبة 100%، على أن تُعرض الخطة على الحكومة الإسرائيلية للموافقة.
قبل إعلان القطيعة التجارية بين البلدين، كانت تل أبيب وأنقرة قد حقّقتا أرباحاً بمليارات الدولارات من التجارة البينية، اعتماداً على اتفاقية التجارة الحرّة التي تجمع بينهما، والتي تمّ التوقيع عليها في القدس منتصف آذار (مارس) 1996، ودخلت حيز التنفيذ في الأول من أيار (مايو) 1997، في عهد حكومة "حزب الرفاه" الإسلامي بزعامة نجم الدين أربكان. وتمّ توسيع الاتفاقية لتشمل مجموعة كبيرة من المنتجات الزراعية في عهد حكومة رجب طيب أردوغان في عام 2007، بل تشير المعطيات إلى أن التجارة بين تركيا وإسرائيل تضاعفت 6 مرّات بين عامي 2002 و2022، أي في عهد "حزب العدالة والتنمية"، على الرغم من الشعارات التي رفعها الحزب بخصوص فلسطين والموقف من إسرائيل، إذ نجحت نخب الحزب الحاكم في تركيا في التمييز بين الاقتصاد والسياسة، خصوصاً أن الميزان التجاري كان يميل دائماً لصالح تركيا.
المفارقة أن التيار الأيديولوجي الذي يمثّله "حزب العدالة والتنمية"، المرتبط بحركة "الإخوان المسلمين"، نجح في التغطية على عملية التطبيع الكلي مع إسرائيل، والتي تجاوزت الشقّ التجاري إلى التعاون العسكري الاستخباري، بما في ذلك تمكين تركيا من التكنولوجيا العسكرية، والمناورات العسكرية المشتركة في الأجواء التركية أو في شرق المتوسط منذ عام 1994، تاريخ توقيع اتفاقية عسكرية هي الأولى من نوعها بين إسرائيل ودولة إسلامية. في المقابل، كانت دول عربية في الجوار، خاضت حروباً مع إسرائيل قبل أن توقّع معها اتفاقيات سلام في سياقات دولية وإقليمية ووطنية خاصة، تتعرّض لحملات التخوين، بينما ظلّ أردوغان البراغماتي يلعب بمهارة بالبيضة والحجر.
وجاء موقف أردوغان الجديد، بعدما تمادت إسرائيل في جرائمها في قطاع غزة، بالشكل الذي يتجاوز حملاتها في عامي 2006 و2014، وهو ما لم تعد الماكينة الإعلامية لـ"حزب العدالة والتنمية" قادرة على إبطال أثره على العلاقة بين تركيا وإسرائيل، خصوصاً بالنسبة إلى جمهور الحزب الداخلي وتوابعه في باقي المنطقة، وهو ما نجح فيه الحزب قرابة ربع قرن.
بنفس الروح البراغماتية، ومن دون الحاجة إلى تقديم مبررات، أدار الرئيس أردوغان ظهره لجماعة "الإخوان المسلمين" في مصر، وكل من ساقه حظه العاثر من أنصارها إلى تركيا. خلال قرابة 12 سنة من القطيعة مع مصر، عقب أحداث عام 2013 التي أنزلت "الإخوان" من كرسي السلطة، وصف أردوغان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في حزيران (يونيو) 2019، في أعقاب موت الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي أثناء محاكمته، بأنه "ظالم وصل إلى السلطة في مصر عبر اغتصاب السلطة والانقلاب، من خلال تجاهل الديموقراطية، وتحييد المرحوم مرسي الذي كان رئيساً لمصر بطريقة ديموقراطية". بل لم يكتفِ بذلك، ووصف السيسي بـ "المجرم". دارت دورة الزمان وقام أردوغان ببسط السجاد الأحمر للسيسي الأربعاء الماضي في قلب أنقرة، وتوجّه إلى المطار لاستقباله وتوديعه في حالة نادرة بخصوص البروتوكول الخاص بالرئيس التركي.
وشكّل أردوغان منذ وصوله إلى السلطة ظاهرة خاصة في تاريخ تركيا الحديثة، ونموذجاً للتيار السياسي الإسلامي الذي نجح في عبور حقول ألغام كثيرة في بنية النظام السياسي، بثقله الأتاتوركي العلماني الصارم، حيث استطاع أن يتجنّب المواجهات القاتلة التي أوقفت زحف الإسلاميين منذ منتصف السبعينات. وقد حقّق ذلك عندما جعل الأيديولوجيا في الخلف، وقدّم حزبه على أنه حزب علماني، وصار يصنع معجزة اقتصادية لا يمكن إنكارها، حارماً بذلك الجيش من أي مبرّر للانقلاب عليه. وحتى عندما حاول جزء منه القيام بذلك، كان الوقت قد فات، وكان أردوغان قد بسط سلطته الفعلية والأخلاقية على الجميع.
ليس هذا سوى جانب من الصورة في تركيا. فالبلاد وفق عدد كبير من المراقبين، سارت بخطى ثابتة نحو نظام سلطوي مغلق. إن التعديلات الدستورية التي فرضها أردوغان، اعتماداً على أغلبيته البرلمانية، لم تقدّم أي مبرّر جدّي ومنطقي لتحويل النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي، غير تمكين السيد أردوغان من السلطة الفعلية، ما دام وضعه في تلك المرحلة لم يعد يسمح له سوى بأدوار رمزية وأخرى بروتوكولية، ما يعني أن دولةً بحجم تركيا حوّلت نظامها السياسي بالكامل إرضاءً لزعيمها الوحيد والأوحد فحسب، وذلك بما يمكنه من الاستمرار في السلطة.
حقق أردوغان بكل تأكيد نهضة قوية لتركيا، واستطاع أن يحقق استقراراً مثالياً لسنوات طويلة، لكنه في النهاية يبقى مجرد بشر يُصيب ويُخطئ، وخطأه الأكبر أنه لا يقبل سماع الرأي المخالف. وعندما تكون هذه الصفة في مسؤول بحجمه، لا يتورّع عن تغيير نظام الحكم لصالحه، حتى لا يبقى في الهامش أو يعود إلى بيته، فإن ذلك يكشف عن تعطّش كبير للسلطة، أكيد أنها قابلة للانحراف عندما لا تجد من يقول في وجهها كلمة "لا".
التعليقات