رياض قهوجي

بعد أحد عشر شهراً من القتل والدمار في قطاع غزة، يصرّ رئيس الوزراء الإسرائيلي وحكومته اليمينية المتشدّدة على استمرار الحرب لغايات شخصية وسياسية وربما أيديولوجية، على الرغم من الضغوط الكبيرة التي تمارسها واشنطن والعواصم الأوروبية، ودعوات المجتمع الدولي لوقف المجازر ضدّ المدنيين الفلسطينيين في غزة، والضفة الغربية أيضاً. فالحكومة الإسرائيلية وسّعت هجماتها إلى الضفة الغربية منذ الأسابيع الأولى للحرب، ولم تكن بحاجة لعذر مثل شنّ الفصائل الفلسطينية في الضفة هجمات في تل أبيب ومناطق إسرائيلية أخرى.

وحشية الاعتداءات الاسرائيلية، والتي لاقت تنديداً من معظم دول العالم، وأدّت إلى إدانات من محكمتي العدل الدولية والجنايات الدولية، وصلت إلى حدود غير مسبوقة، وباتت النيّات المخفية وراءها من تهجير الفلسطينيين إلى دول مجاورة، واضحةً ومعروفة من المجتمع الدولي، تناقشها وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث والأكاديميون حول العالم.

باتت هذه الدموية والسياسات العنصرية من جانب حكومة نتنياهو مصدر قلق لبعض قوى المعارضة الإسرائيلية، لأنها تهدّد مستقبل الدولة العبرية وهويتها وحدودها. هذا في وقت يستمر التساؤل في الأوساط الفلسطينية والعربية عن النتائج الفعلية لعملية "حماس" في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. هل أعادت فعلاً إحياء القضية الفلسطينية، وهل كان الكفاح المسلح ولا يزال السبيل الوحيد للدفاع عن القضية والسير بها نحو النصر؟

بحسب خبراء ومسؤولين غربيين، ومنهم من يعمل في مراكز أبحاث مقرّبة جداً من إسرائيل، أخطر ما قد ينتج من الحرب الإسرائيلية على غزة والضفة الغربية هو فقدان تل أبيب سيطرتها على رسم حدود الدولة الفلسطينية. وأشار هؤلاء الخبراء في مؤتمر أخير في إحدى العواصم الأوروبية، إلى أن أهمية اتفاق أوسلو تكمن في أنه منح إسرائيل السيطرة على رسم حدود مناطق السلطة الفلسطينية، والتي كانت في نهاية المسار ستكون الدولة الفلسطينية. ومنذ توقيع الاتفاقية، كان الوسطاء يتعاطون مع المساحة الجغرافية لأراضي السلطة بحسب مضمون اتفاق أوسلو، على الرغم من كل التعديلات التي أُدخلت عليها بحكم الأمر الواقع الذي أوجده استمرار عمليات الاستيطان في أراضي الضفة. حتى باتت السلطة في مرحلة ما تحاول الاحتفاظ بالمساحة التي نتجت من أوسلو، مع العلم أنها أصغر من مساحة أراضي ما قبل حرب 1967.

أما الآن، وبعد ما خلّفته العمليات العسكرية المستمرة بهدف تدمير مقومات الحياة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وسط استهجان المجتمع الدولي ورفضه خيار تهجير الفلسطينيين إلى سيناء أو الأردن، فإن إسرائيل تواجه إمكانية تدويل مسألة ترسيم حدود الدولة الفلسطينية في أي مشروع سيُطرح مستقبلاً لتكريس "حلّ الدولتين". ويضيف الخبراء، أن ما قامت به الحكومة الإسرائيلية حتى الآن هو تدمير مقومات الحياة في مناطق السلطة، بهدف تخريب مشروع "حلّ الدولتين". لكنّ استمرار رفض المجتمع الدولي، خصوصاً القوى الغربية، خيار تهجير الفلسطينيين، فإن الدولة العبرية ستجد نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما: إما "حلّ الدولتين" ضمن حدود قد تكون مغايرة لاتفاق أوسلو، أو "حلّ الدولة الواحدة" حيث تكون حقوق جميع المواطنين متساوية بغض النظر عن الهوية الدينية، ما يُنهي مشروع الدولة اليهودية. فبحسب أغلبية الخبراء في الغرب، وحتى دراسات بعض الأكاديميين في إسرائيل، فإن الدول الغربية ذات الأنظمة الليبرالية الديموقراطية لن تقبل بنظام عنصري يميّز ضدّ غير اليهود.

هناك صراع واضح على الهوية تشهده إسرائيل منذ فترة، وهو يؤثر بشكل واضح على مجريات الحرب. فحكومة نتنياهو تسيطر عليها الأحزاب اليمينية الدينية التي كانت تسعى منذ مجيئها إلى السلطة لإجراء تعديلات تُضعف النظام القضائي، وتغيّر الهوية الليبرالية لدولة إسرائيل. واستغلت هذه الحكومة هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر) لتنفيذ مخططاتها القديمة بتهجير سكان الضفة والقطاع وتوسيع الاستيطان فيهما وإنهاء مشروع دولة فلسطين. طبعاً، ساعدت هذه السياسات نتنياهو في إطالة الحرب والبقاء في السلطة، واستغلالها لجرّ أميركا إلى حرب ضدّ إيران ومحور الممانعة، ولتحقيق مكاسب ميدانية تمكّنه من الذهاب في مرحلة ما إلى انتخابات تشريعية تكون فرصه بالفوز فيها أكبر مما هي عليه الآن. لكنّ بعض قوى المعارضة الإسرائيلية وخبراء غربيين يعتقدون أن حرب نتنياهو المفتوحة قد تؤدي إلى عواقب سياسية وديبلوماسية وخيمة على إسرائيل ومشروع الدولة اليهودية. وإذا اقتنعت الدول الغربية ومعها القوى العربية، بأن مشروع الدّولتين بات مستحيلاً نتيجة ما ستخلّفه الحرب الحالية، فإنها قد تتخلّى عنه لصالح خيار الدولة الواحدة. وهناك حلقات حوار ومنتديات تشهدها عواصم غربية منذ فترة، تناقش إيجابيات "حلّ الدولة الواحدة" وسلبياتها مقارنة بـ "حلّ الدولتين". ومن الحكمة أن تدرس القوى الإقليمية الخيارين نظراً إلى المستجدات التي تسبّبت بها الحرب الحالية.

أما بالنسبة إلى نتائج هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر) فقد كانت كارثية على الشعب الفلسطيني. فائدتها على القضية الفلسطينية كانت نتيجة شراسة ردّة فعل الحكومة الإسرائيلية بشن هذه الحرب الشعواء، وتعنّت نتنياهو ووزرائه وعنصريتهم. فأهداف عملية "حماس" الكبيرة كانت وقف مسار التطبيع بين إسرائيل والدول العربية، وتسليط الضوء دولياً على القضية الفلسطينية، وتحرير الأسرى من السجون الإسرائيلية، وتكريس "حماس" قوة رئيسية على الساحة الفلسطينية. النتائج حتى الآن هي تجميد مسار التطبيع من دون انهائه، وتحويل القضية الفلسطينية من موضوع سياسي وطني إلى إنساني (مأساة شعب)، وتضاعف عدد الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وتصفية الآلاف من عناصر "حماس" واغتيال قادتها وملاحقة آخرين، وإعادة احتلال قطاع غزة، وتدمير معظمه وأجزاء من الضفة الغربية في عمليات مستمرة حتى الآن.

ما جرى في غزة طرح موضوع ماهية المقاومة المسلحة داخل الأراضي الفلسطينية ونتائجها حتى الآن. ولإجراء مقارنة موضوعية بين خياري المقاومة المسلحة والمقاومة غير المسلحة، يجب عرض نتائج الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي انطلقت في عام 1987، وعُرفت باسم انتفاضة أطفال الحجارة، بنتائج الحروب العسكرية التي خاضتها "حماس" وغيرها داخل الأراضي الفلسطينية منذ مطلع القرن الحالي. الانتفاضة التي استمرت حتى عام 1991، وخلّفت 1300 قتيل فلسطيني، انتهت بمؤتمر السلام في مدريد، وتوقيع اتفاق أوسلو، واعتراف الغرب بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً للشعب الفلسطيني، وتأسيس السلطة الفلسطينية، وبدأ مسار تأسيس الدولة. فمشاهد المواجهات بين شعب أعزل يُطالب بحقوقه ومواجهته بالرصاص الحي كان لها وقع كبير على الرأي العام الدولي أثمرت نصراً تاريخياً. وكان من سرّ نجاح هذه الانتفاضة ظهور قيادات داخلية إدارتها من دون التأثر في أهداف ومآرب أي من القوى الإقليمية، كما حال الفصائل الفلسطينية في الخارج. أما نتائج العمليات العسكرية التي طغت على الانتفاضة الثانية وما تلاها من حروب شنّتها "حماس" وفصائل أخرى، فكانت قتلى ودماراً من دون أي مكاسب سياسية، بل أعطت الحكومات الإسرائيلية اليمينية الحجج للتراجع عن التزاماتها بحسب اتفاق أوسلو، وتفريغ الاتفاق من مضمونه وقضم الأراضي.

وبعد مقتل أكثر من 40 ألف فلسطيني في غزة والضفة الغربية، وإلحاق دمار هائل وممنهج مستمر للآن، تسعى "حماس" إلى تحقيق الأهداف التالية: وقف إطلاق النار، وخروج القوات الإسرائيلية من القطاع (الضفة الغربية ليست على طاولة المفاوضات)، وتحرير أسرى فلسطينيين مقابل إطلاق أسرى إسرائيليين، وإبقاء سيطرة الحركة على القطاع. وعلى الرغم من فتح أطراف محور الممانعة جبهاتها لدعم "حماس"، لم تتوقف آلة القتل والدمار الإسرائيلية، ولم يتمّ تحقيق مكاسب سياسية للفلسطينيين. إيران، من ناحية أخرى،كانت المستفيد الأكبر، حيث أعادت فتح الأقنية الديبلوماسية مع واشنطن، وسط تقارير تتحدث عن تقدّم في المفاوضات التي تأمل طهران في أن تؤدي إلى رفع العقوبات عنها. وعليه، فإن انتفاضة أطفال الحجارة بقيادة داخلية غير مرتبطة بالخارج، حقّقت في أربع سنوات مكاسب سياسية للقضية الفلسطينية تفوق بأضعاف ما حقّقته المقاومة المسلّحة خلال العشرين سنة الماضية. هذه حقيقة يجب أن يقف عندها المسؤولون الفلسطينيون عند دراسة خياراتهم المستقبلية، ومراجعة تحالفاتهم الإقليمية.