تزامنا مع عقد المنتدى الإندونيسي الإفريقي الثاني في بداية شهر سبتمبر، وخلاصات أهدافه، كجعله منصة إستراتيجية للتنمية، وما سجلته بعض التدخلات المفضوحة من طرف أجهزة النظام العسكري الجزائري بإقحام موضوع الصحراء المغربية وربطه بشكل عبثي بمحطة مؤتمر باندونغ سنة 1955، أي قبل تاريخ الاستقلال المشروط للجزائر في استفتاء يوليو 1962؛ وهي تصريحات شاذة جاءت بعد فضيحة "الشنطة /المحفظة" بمنتدى تيكاد بطوكيو، وطرد الانفصاليين من قاعة الاجتماع، وتصريح اليابان بعدم الاعتراف بكيان مخيمات تيتدوف، استقبلت إندونسيا في الفترة نفسها الحبر الاعظم وبابا الفاتيكان فرانسيس (87 سنة) في أطول رحلة رسولية في عهده، وهي الزيارة التي تأجلت منذ ديسمبر 2019 بسبب الكوفيد. وشملت الرحلة بالإضافة إلى إندونسيا كلا من بابوا غينيا الجديدة وتيمور الشرقية وسنغافورة.

إن زيارة البابا فرانسيس في سبتمبر 2024 تاريخية بكل المقاييس، أولا لأنها ثالث زيارة بعد زيارات بابوية سنتي 1970 و1989، ثانيا لأن إندونسيا أكبر دولة مسلمة في العالم، وتضم ست ديانات مختلفة تتوزع على 17 ألف جزيرة، وثالثا لأن إندونسيا، ذات 290 مليون نسمة، اكثر من 87% مسلمين و3% مسيحيين (حوالي 30 مليون مسيحي)، توجد في مساحة جغرافية يستقر فيها أكبر عدد من مسلمي العالم، سواء في ماليزيا أو الصين أو الهند أو أفغانستان أو باكستان، وهي تتوفر على أكبر مسجد في آسيا، وحوالي مليون مسجد في كل التراب الإندونيسي.
لقد حًددت أهداف زيارة البابا في دعم حوار الأديان والحد من تداعيات التغييرات المناخية.

كما أشاد البابا فرانسيس بحرارة الاستقبال وتوقيع إعلان الاستقلال (نسبة لمسجد الاستقلال) مع الإمام الأكبر نصر الدين عمر؛ كما زارا معا "نفق الصداقة" الذي يفصل بين مسجد الاستقلال وكتدرائية المدينة، وهي أنشطة تدخل في مسلسل "الأخوة الإنسانية" الموقعة بالإمارات العربية بحضور إمام الأزهر الشريف، ثم الزيارة التاريخية إلى المغرب واستقبال البابا من طرف أمير المؤمنين الملك محمد السادس.
كنا سنكتفي بهذه القراءة لولا وجود قاسم مشترك بين الحدثين التاريخيين، وهو تيمور الشرقية التي احتفلت بالذكرى الخامسة والعشرين لتقرير المصير يوم 31 اغسطس بالانفصال عن إندونسيا؛ وهو الحدث الذي حضره الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش وشخصيات أخرى.
حاول النظام العسكري الجزائري كالعادة البحث عن مساحة إعلامية لتسويق بضاعته الفاسدة (البوليساريو)، التي أصبحت ككرة النار تحرق حاملها، خاصة أنه يرى في "تيمور الشرقية" تجربة يجب نسخها في ملف الصحراء المغربية.

لكن الموضوع أعقد من رؤية النظام الجزائري، وتداخلت فيه عدة أطراف سياسية واقتصادية ودينية وتحالفات إيديولوجية، بدليل أنه رغم مرور 25 سنة على تقرير مصير تيمور الشرقية مازلت الجزيرة غير مستقرة أمنيا، وغير قادرة على تحقيق تطلعات السكان؛ بل إنه حتى بعد استفتاء تقرير المصير واستحواذ "الثوار" على السلطة سنة 2002 فإن اللاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي أطال بقاء القبعات الزرق إلى غاية سنة 2012. وما زالت تيمور الشرقية تستورد كل احتياجاتها من الخارج، مع استنزاف كبير لثرواتها من البن والغاز والبترول وبروز مظاهر الفقر والهشاشة على سكان الجزيرة؛ وهذا دليل على أن تقرير المصير لم يكن مطلبا شعبيا، بل مطلبا سياسيا واقتصاديا يحمل بصمات خارجية.

وهنا نستحضر وبقوة اسم آنا غوميز (Ana Gomes) الملكفة ملف تيمور الشرقية، وسط صراعات قوية بين لشبونة وجاكرتا، السفيرة السابقة للبرتغال بإندونيسيا سنوات 2000 – 2003، ودورها الكبير في مساندة الثوار، وخاصة كزانانا جسماو (Xanana gusmao) الذي سيصبح أول رئيس لتيمور الشرقية. فالسيدة غوميز لم تكن بالدبلوماسية العادية، وهي القادمة من رحم الحركات التحررية من داخل الجامعات البرتغالية والناشطة اليسارية داخل منظمات حقوقية، ودورها الكبير في تنظيم استفتاء تقرير المصير جعل العديد من المراقبين والدبلوماسيين يطلقون عليها لقب "سيدة تيمور الشرقية".
ويبدو أن النظام الجزائري لجأ إلى خدمات السيدة غوميز بصفتها نائبة في البرلمان الأوروبي بين سنوات 2004 و2019، وهو ما يبرر تنقلاتها بين المواقع الإعلامية ومقرات التلفزيونات الأوروبية لتسويق إدانة المغرب في زمن (قطر غيت) Qatar gate في ديسمبر 2022، وكيف تم توظيف ماضيها الدبلوماسي في التشويش على ملف مغربية الصحراء، سواء بالبرلمان الأوروبي أو مجموعات اللوبيينغ، سواء بستراسبورغ أو بروكسل، مع تبنيها سردية "القاضي ميشيل كليز".

أكثر من هذا فإن النظام الجزائري بعث بزعيم الانفصاليين إبراهيم غالي إلى غاية غرفة الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش، أثناء وجوده في احتفالات تيمور الشرقية في اغسطس 2024، لا لشيء سوى أخذ صورة للاستهلاك الإعلامي والانتخابي (رئاسيات عبد المجيد تبون)، مع رئيس الوزراء البرتغالي السابق بين 1995 و2002، أي زمن أزمة ليشبونة وجاكرتا حول تيمور الشرقية.
من جهة أخرى، جاء خطاب البابا فرانسيس، سواء في إندونيسيا أو تيمور الشرقية، حاملا الكثير من التلميح للمصالحة ونسيان الماضي الأليم، وأن الأهم هو بناء المستقبل، تحت عناوين الحوار الديني والتسامح والمرور من نفق الصراع إلى نفق الصداقة.

لكن العديد من الملاحظين، ومنهم رجال دين، مالوا إلى قراءة دينية لزيارة البابا فرانسيس، وذكّروا بتاريخ الصراع التجاري حول الجزيرة الذي يمتد منذ 1515 بين البرتغال وهولندا من جهة، والصراع السياسي والديني بين إندونيسيا (المسلمة) وتيمور الشرقية (المسيحية) من جهة ثانية، وأن الكنيسة كان لها دور كبير في مسلسل تقرير المصير لجزيرة أغلب سكانها كاثوليك. فزيارة البابا جون بول الثاني وخطابه الشهير "ملح الأرض" في 12 أكتوبر 1989 ساهم في إعطاء مساحة إعلامية كبيرة لملف تيمور الشرقية، وسرعان ما تغير كل شيء بارتكاب الجيش الإندونيسي مجزرة بمقبرة سانت كروز في نوفمبر 1991، ذهب ضحيتها 300 محتج كاثوليكي، حيث قام صحافيان أمريكيان هما أمي كودمان (Amy Goodman)، والان نيرن (Allan Nairn) بتصوير الحدث ونشره على نطاق واسع، ما حمل معه موجة كبيرة من الغضب والإدانة في كل العواصم الغربية، عجلت بتوقيع اتفاق بين لشبونة وجاكرتا حول مسلسل استقلال تيمور الشرقية عن إندونسيا سنة 2002.
فالقراءة الدينية رسخت فكرة عدم تخلي الكنيسة عن تيمور الشرقية منذ وصول المستعمر البرتغالي الذي حمل معه المسيحية واللغة البرتغالية سنة 1515، مرورا بتقديم دعم سياسي وإعلامي و"تدويل" القضية، وصولا إلى الاستقلال، من خلال زيارات بابوية مهمة سنوات 1970-1989.

في حين كان عنوان زيارة البابا فرانسيس لسنة 2024 هو الدعوة إلى التعايش مع خصوم الأمس على المستوى السياسي والعقائدي في إطار الأخوة الإنسانية، انطلاقا أولا من إندونسيا التي تعترف بست ديانات، بأغلبية مسلمة وأقلية مسيحية، وترفع الشعار الوطني Bhinneka tunggal ika أي "الوحدة داخل التنوع". ثم من تيمور الشرقية، ذات الأغلبية المسيحية، لكن بمشاكل أمنية واقتصادية وصراعات طائفية كبيرة ومظاهر فقر قوية، مقابل ثروات مهمة من الغاز والبترول في السواحل وباطن الأرض.

أعتقد أن زيارة البابا فرانسيس إلى دول آسيا وأوقيانبا في سبتمبر 2024 تحمل رسائل قوية في مجال الدبلوماسية الدينية، وأن استقباله حوالي 41 من رجال الكنيسة من مناطق مختلفة من آسيا (الفلبين وماليزيا وفيتنام)، واجتماعه بمسلمي إندونيسيا والإمام الأكبر نصر الدين عمر، سيفتح المنطقة على آفاق جديدة غايتها العدالة الاجتماعية والحوار والاحترام المتبادل في إطار "الأخوة الإنسانية".