علي عبيد الهاملي

تستهويني العودة إلى الجرائد والمجلات القديمة. أجد فيها عبقاً من نوع خاص ومختلف. هذا لا يعني أن الجرائد والمجلات القديمة أفضل من جرائد ومجلات اليوم، فربما استهوت جرائد ومجلات اليوم من سيأتون بعدنا، هذا إن بقيت هذه الجرائد والمجلات الورقية قائمة، وقاومت ابتلاع التكنولوجيا الحديثة لها، أو هادنتها، واستطاعت أن تتعايش معها، في ظل الحديث عن زحف الإعلام الرقميّ عليها.

أجلس في مكتبة الأرشيف والمكتبة الوطنية في أبوظبي، أتصفح عدداً من مجلدات الجرائد القديمة. الهدوء يسود المكان. الأرجل قليلة والأصوات شبه معدومة. يشعرني هذا الهدوء بالسكينة التي أنشدها بعد سنوات من الضجيج والصخب.

أمامي على الطاولة مجلد كبير، يضم بين دفتيه مجموعة أعداد قديمة لجريدة محلية، ما زالت تصدر حتى اليوم. زمن الأعداد منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، زمن يختلف الكثيرون على تسميته، وأسميه أنا عصر الانطلاق، بعد عقد من البناء لدولة الاتحاد ومؤسساتها.

أقلّب الصفحات، أستحضر من خلالها زمناً عشته، وكنت جزءاً من إعلامه، لا أسميه جميلاً لأصف أزمنة أخرى بالقبح، كيلا أستفز البعض ممن يصطادون في المياه العكرة، لأن الزمن ليس هو صانع الجمال والقبح، وإنما نحن الذين نصنع الجمال ونقيضه، بأفعالنا وأقوالنا وتصرفاتنا في هذه الحياة، وكلما ابتعدنا عن القبح، صرنا أكثر جمالاً.

في إحدى الصفحات، أطلقت الجريدة عليها «خدمات»، تطالعني مواقيت الصلاة، وأسماء الصيدليات المناوبة، و«حالة الجو»، التي أفضل لو أطلقت الصحيفة عليها «حالة الطقس»، وهواتف المستشفيات، والطوارئ، الإسعاف والشرطة والدفاع المدني والمرور والكهرباء والمياه، وهواتف موانئ الدولة البحرية، وحركة الطيران في مطار أبوظبي الدولي، ومطار الشارقة الدولي، ومطار رأس الخيمة الدولي، ورموز فتح الخطوط داخل مدن الدولة، ورموز فتح الخطوط الدولية، وأسعار العملات العربية والأجنبية بالدرهم، وأسعار الفائدة على الودائع لأجَلٍ بالدرهم.

ولا تقتصر الصفحة على هذه الخدمات فقط، بل تقدم للقارئ خدمات تثقيفية وأخرى ترفيهية، فتحت عنوان «إنه في يوم...» تلقي الصفحة الضوء على حدث من الماضي، وتحت شعار «كذب المنجمون ولو صدقوا» تخبر القارئ عن حظه اليوم، كما تقدم له شبكة من الكلمات المتقاطعة، ليختبر معلوماته، ويسد الفراغ الذي يمكن أن يتسلل إلى حياته. كل هذا تقدمه الجريدة للقارئ في صفحة واحدة، عنوانها «خدمات».

تُرى، هل ما زال القارئ محتاجاً إلى صفحة «خدمات» هذه اليوم، وهل لو قدمتها جريدة من الجرائد الآن لقرائها في نسختها الورقية، سيقبلون عليها مثلما كان يفعل قراء ذلك الزمن؟.

كان قراء ذلك الزمن يلجؤون إلى الجريدة إذا ارتفعت حرارة أحد الأبناء أو الأهل والأقارب بعد منتصف الليل، لمعرفة الصيدلية المناوبة، عندما لا يجدون الدواء المطلوب في البيت، في هذا الوقت المتأخر.

كما كانوا يلجؤون إليها عندما يحتاجون معرفة موعد وصول طائرة أو مغادرتها، كي يكونوا في استقبال أو توديع أحد الأهل أو الأقارب أو الأصدقاء، ولمعرفة حالة الطقس قبل الخروج، والتسلي بمعرفة الحظ وما تقوله الأبراج، والوقوف على آخر أسعار العملات والأسهم والسندات، ومعرفة مواقيت الصلاة، وغيرها من الخدمات التي كانت تقدمها صحف ومجلات ذلك الزمن، والتي لم يعد الناس يرجعون اليوم إلى الصحيفة لمعرفتها، لأنها أصبحت متاحة على مدار الساعة في المواقع الإلكترونية، والتطبيقات المتوفرة في جهاز صغير، اسمه الهاتف المتحرك، لا يغادر أيديهم منذ الساعة التي يفتحون فيها عيونهم، وحتى ساعة إغلاقها.

الجميل هو أن صحف اليوم طورت مواقعها الإلكترونية، واستحدثت لها تطبيقات على الهواتف المتحركة، كي تجاري العصر، فلا تفقد مكانتها لدى قرائها الذين أصبح معظمهم يهربون من الورق، ليس لأنهم لا يحبونه، وإنما لأن طبيعة العصر لم تعد تسمح بالجلوس على الكراسي والأرائك، والتحلق حول طاولات المقاهي لتصفح الورق، في وقت يجري كل شيء حولهم بسرعة جنونية، تفقدهم القدرة على الإمساك بالوقت، وإن كان البعض ما زال يحاول مقاومة هذا التيار، على أمل الحد من اندفاعه، لأن التغلب عليه شبه مستحيل.

«خدمات لم تعد مطلوبة»، ربما يبدو عنواناً غير محبب لأولئك الذين تستهويهم الجرائد والمجلات القديمة، ويبحثون عن رائحة ورقها في المكتبات، والمراكز التي تهتم مشكورةً بحفظها وأرشفتها.