تسترعي نظري أمور غريبة، ولا أجد لها جواباً، فأبحث وأسال، وأقرأ، وغالباً ما أقتنع بجواب ما، يكون قريباً من الحقيقة، وما أصعب الوصول إليها!

فمثلاً، تستحوذ دول قليلة جداً، لا تتعدى العشر بكثير، على ذائقة بقية شعوب الأرض، وعددها يقارب الـ200، فيما يتعلق بما تتناوله من طعام، خارج مطبخها التقليدي، فما سبب ذلك؟

فأينما ذهبنا في العالم نجد أن هناك مطعماً عالمياً شهيراً كالإيطالي، والفرنسي، والهندي، أو الصيني، أو التايلندي، أو المكسيكي، أو اللبناني، والإيراني، والتركي، والمغربي، واليوناني. في الوقت نفسه لا نجد مطعماً إنكليزياً، وهي الدولة التي قهرت وحكمت العالم أجمع تقريباً، بمدافعها ولغتها لقرون! كما لا نجد مطعماً أمريكياً، بخلاف مطاعم الوجبات السريعة، بالرغم من أنها الدولة الأكبر والأعظم والأكثر تقدماً اليوم. كما لا نجد مطعماً مصرياً أو عراقياً، بالرغم من عمق حضارة وتاريخ الدولتين.

يمكن إرجاع العدد الصغير للمطابخ المهيمنة على الذائقة العالمية، على الرغم من وجود مئات الدول وآلاف التقاليد الغذائية الفريدة، إلى ثلاثة عوامل مهمة ومترابطة، أولها توفر مكونات تحضير الطعام في هذه الدول، مع امتلاكها لتنوع ما تستخدم في طعامها من بهارات وأعشاب وطرق تحضير فريدة ومعقدة. فبغيرها لا يمكن أن تتقبل الذائقة العالمية طعامها بسهولة، مع استثناء عوامل أخرى، كالعولمة وتوفر الطعام بسهولة، في كل مكان تقريباً، ورخص ثمنه، وقوة دعايته، كالأطعمة الأمريكية الشهيرة من برغر وبيتزا.

أما العامل الثاني فيتعلق بالرغبة في خدمة الضيف، والخبرة في تقديم الطعام، وكسب إعجاب رواد المطعم، بالترحيب والتقديم، شكلاً ومكاناً وكمية وآنية. أما العامل الثالث فيتعلق بضرورة أن تكون الدولة سياحية، ومنفتحة على العالم، يجد فيها السائح ما يرغب من لهو وطبيعة ومطاعم وفنادق. ولو دققنا قليلاً لوجدنا أن هذه العوامل الثلاثة لا نجدها في دول الخليج، ولا في مصر، وحتى في سوريا، ولا العراق وبريطانيا وروسيا، وعشرات الدول الأخرى، وهذا هو السر.

* * *

كما لاحظت أن كل الإمبراطوريات الاستعمارية تركت وراءها دولة أو أكثر تتحدث لغتها، فنصف أفريقيا تقريباً يتحدث الفرنسية، ونصفها الآخر الإنكليزية. كما أن أجزاء كبيرة من آسيا تتكلم اللغة الفارسية، من إرث سابق إمبراطوريتها. كما تأثرت دول كثيرة، سبق أن غزاها وحكمها العرب، باللغة العربية، وأصبحت لغتها، قبل أن تتخلى عنها رسمياً، مع بقاء تأثيرها عليها حتى اليوم، كالتركية والفارسية وغيرهما. لكننا من جانب آخر لا نجد دولة غير إيطاليا تتحدث الإيطالية، بالرغم من أن الإمبراطورية الرومانية كانت الأكثر اتساعاً في تاريخ القوى الاستعمارية، والأشد تأثيراً حضارياً، والأطول عمراً، فما السبب؟

بحثت فوجدت أن الإمبراطورية الرومانية، التي أصبحت عاصمة المسيحية في العالم، بعد اعتناق قسطنطين لها خلال حكمه، الذي استمر من 306 إلى 336، كانت تنقسم إلى قسمين، الإمبراطورية الرومانية الغربية، وقاعدتها روما، وكان بلاطها يتحدث اللاتينية، والإمبراطورية الرومانية الشرقية، وقاعدتها القسطنطينية، وكان بلاطها يتحدث اليونانية. وكانت الشعوب الرومانية الغربية تتحدث الإيطالية والفرنسية والأسبانية والبرتغالية والرومانية، والألمانية والبولندية وغيرها، لكن مع وصول الإمبراطورية الغربية لأوج توسعها وقوتها، بدأت في الانحلال والتفكك، حيث سقطت في عام 476، فانقسمت أوروبا إلى ممالك مختلفة، اختارت كل منها الاحتفاظ بلغتها، ومنها الدولة الإيطالية، مع اختيار الفاتيكان اللغة اللاتينية. لكن مع الوقت أصبحت اللاتينية لغة الكرسي الرسولي الرسمية، لكن مع طغيان اللغة الإيطالية، بحكم الواقع.

أما الإمبراطورية الرومانية الشرقية فقط سقطت بعد الغربية بألف عام، أي في 1453، وكانت لغة البلاط فيها اليونانية، لكن بعد انهيارها على يد الأتراك، اندثرت اللاتينية، وانحصرت اللغة اليونانية في اليونان وقبرص. لذا لا توجد اليوم دولة غير إيطاليا تتكلم الإيطالية، لأنها لم تكن أصلاً لغة الإمبراطورية الرومانية، بجناحيها.


أحمد الصراف