فاروق يوسف

قبل أن تقوم إيران بإطلاق صواريخها في اتجاه إسرائيل كانت قد اتخذت موقفاً حذراً من تطورات الحرب الإسرائيلية التي انتقلت من غزة إلى لبنان. في السياق نفسه جاء البيان الذي أصدرته مرجعية النجف حثاً على مد يد المساعدة للمتضررين من العدوان الإسرائيلي في لبنان، في إشارة مبطنة إلى عدم الانجرار وراء دعوات المشاركة في الحرب وتوسيع نطاقها. وهو ما أظنه لا يروق لحملة السلاح في العراق ممّن لم يفهموا حتى اللحظة أن هذه الحرب لا تشبه أي حرب سبقتها لا لأن إسرائيل استعدت لها جيداً فحسب بل وأيضاً لأن الهدف منها مختلف. فإذا كان الجنون الإسرائيلي في حرب عام 2006 قد امتد ليشمل تدمير البنية التحتية للبنان فإنه هذه المرة يركز على تحجيم قوة "حزب الله" بما يمنعه من الذهاب أبعد من مكتسباته داخل الأراضي اللبنانية، بمعنى تجريد الحزب من خيلاء القوة الإقليمية الذي أصابه بعد مشاركته في الحرب السورية. ولهذا بدأت إسرائيل حربها من نقطة غير متوقعة حين قررت اغتيال الآلاف من مقاتلي الخط الثاني لـ"حزب الله" في الدقيقة عينها من غير أن تطلق رصاصة واحدة، إلى جانب توجيه ضربات لم تخطئ طريقها إلى قياديي الخط الأول وصولاً إلى زعيم التنظيم. تلك هي صورة الحرب في الواقع والتي لا يمكن لزعماء الميليشيات الولائية في العراق أن يصلوا إلى شيء من خيالها.

طائفية سياسية من غير حاضنة اجتماعية

ما يجب عدم إغفاله أن الحشد الشعبي وإن كان جزء منه يسعى إلى التشبه بـ"حزب الله"، يختلف عنه في نقطة جوهرية. اختلاف يتصل بالبيئة الاجتماعية والتاريخ السياسي. منذ تأسيسه كان "حزب الله" تنظيماً عقائدياً اتخذ من العزلة الطائفية دافع جذب في مجتمع يعيش تداعيات الحرب الأهلية، أما الحشد الشعبي فإنه كيان تجميعي مركب كانت الطائفية شعاره غير أن دوافع الانتماء إليه كانت دائما نفعية من غير أن يكون هناك تأسيس لبنية اجتماعية طائفية تكون بمثابة حاضنة له. لا يزال الحشد الشعبي عبارة عن مجموعة متنافرة من الميليشيات التي يمكن أن يصطدم بعضها بالبعض الآخر في أية لحظة بسبب تضارب المصالح أو أقل من ذلك، ناهيك عن أنه لا يملك القدرة على اختراق ما يمكن أن أسميه مجازاً "المجتمع الشيعي" وإن كانت تلك التسمية لا تمت إلى الواقع بصلة. فشيعة العراق بالرغم مما يُشاع عن مظلوميتهم (كذباً) لم يعيشوا عبر كل عهود الدولة الحديثة في العراق في عزلة طائفية، كما أنهم لم يكونوا طائفيين لا لشيء إلا لأن العراق لم يعش حالة تجاذب طائفي إلا بعد احتلاله عام 2003. يوم كانت هناك دولة لم يكن شيعة العراق في حاجة إلى ميليشيا تمثلهم وتدافع عنهم وتحميهم. ما يؤكد ذلك أن 90% من مقاتلي الحشد الشعبي الذين يُقال إن عددهم يزيد على المئة ألف كانت البطالة هي دافعهم وليست الحماسة للمذهب.

لن تضحي إيران بنفوذها في العراق

في السنوات القليلة االماضية ركزت الميليشيات التي توصف بالولائية كما لو أن الميليشيات الأخرى لا توالي إيران ولا تؤمن بولاية الفقيه، وهو أمر غير صحيح، على مسألة طرد القوات الأميركية من الأراضي العراقية وإغلاق قواعدها باعتبارها قوة احتلال. ومن يستحضر مرحلة ما بعد 2003 لا بد أن يكون عارفاً بحقيقة أن الميليشيات الشيعية باستثناء جيش المهدي الذي كان مقتدى الصدر يتزعمه لم تدخل في صراع مع الأميركيين ولم تطلق رصاصة واحدة عليهم. غير أنها ما أن تم ضمها إلى كيان عسكري موحد أُطلقت عليه تسمية "الحشد الشعبي" حتى بدأت بقصف تلك القواعد كما وصلت صواريخها إلى محيط السفارة الأميركية ببغداد. وعلى الرغم من أن الأميركيين لم يكونوا جادين حين ردوا على تلك التحرشات غير أن الرد الأميركي كان في بعض الأحيان صاعقاً بحيث أدى إلى أن تُخلي الميليشيات مقراتها ويختبئ زعماؤها بعيداً عن أماكن وجودهم التقليدية. يمكننا الآن أن نتخيل ما الذي يمكن أن يحدث في صفوف تلك الميليشيات لو أن إسرائيل قد اتخذت موقفاً جاداً في الرد على قصف يأتيها من العراق. ولكن إسرائيل أصلاً لا ترى في الإزعاج العراقي خطراً لأنها تعرف أن إيران لم تحول العراق إلى منصة لصواريخها الحقيقية انطلاقاً من حرصها على أمن العراق الذي هو خزنتها المالية وملعب أية مواجهة محتملة مع أعدائها. يمكن لإيران أن تضحي بنفوذها في لبنان وهو أمر يصعب تخيل برنامجه. ذلك لأن "حزب الله" كان ولا يزال هو الأعز من بين أذرعها لكنها لا يمكن أن تضحي بنفوذها في العراق بغض النظر عن الحماسة التي يبديها بعض زعماء الميليشيات للمشاركة في الحرب.

الحرب فقرة في مزاد جديد

كان العراق دائماً في حالة حرب مع إسرائيل بدليل أن جواز السفر العراقي كان يتضمن جملة تقول "مسموح لحامل هذا الجواز السفر إلى كل الدول باستثناء إسرائيل". تلك جملة أزيلت من الجواز العراقي الجديد. ذهب الكثير من السياسيين العراقيين الجدد إلى إسرائيل من غير أن يتعرضوا حتى للمساءلة من قبل مجلس النواب الذي كان عدد من أعضائه من بينهم. لذلك فإن لغة الحرب التي يلجأ إليها زعماء بعض الميليشيات والتي يرافقها إطلاق مسيرات وصواريخ لا تصل عادة إلى أهدافها ما هي إلا استرجاع لثقافة إيرانية سابقة، يوم كان "الموت لأميركا، الموت لإسرائيل" هو شعار المرحلة. في المقابل فإن الموقف الرسمي ينسجم مع ما تضمنه بيان المرجعية الذي يؤكد ضمناً على عدم الانجرار إلى الحرب، علماً بأن الحكومة العراقية قد فتحت حدودها للنازحين اللبنانيين وأبدت استعدادها لإعالتهم من خلال إتاحة فرص العمل لهم حسب تصريح وزير العمل العراقي وإسكانهم على الرغم من أن الميليشيات كانت قد هجرت بعد 2003 الفلسطينيين المولودة غالبيتهم في العراق. كل التناقضات ممكنة في العراق الجديد. لذلك ليس من المستبعد أن يكون الخلاف حول مسألة الحرب محاولة جديدة لخلط الأوراق في المشهد السياسي بحثاً عن مكتسبات يحققها هذا الطرف أو ذاك.