نحن أمام تحوّل وتطوّر في العقيدتين الإيرانية والإسرائيلية، إنما ما زلنا لا نعرف أين ستستقر إبرة البوصلة في كلتا الحالتين. مستقبل منطقة الشرق الأوسط برمتها يقف على مفترق العقيدتين.

السؤال هو هل الجمهورية الإسلامية الإيرانية باتت حقاً جاهزة لتلطيف عقيدة النظام، أو تعديلها، أو تهذيبها، أو مراجعتها، لأن حاجتها الاستراتيجية تقتضي إعادة النظر جذريّاً في عقيدتها التي انطلقت مع الثورة الإيرانية عام 1979؟ أم أنها تناور مرحلياً فقط لاسترجاع أنفاسها في ما تبقى متأهبة سرّاً لاستئناف دعم أذرعها في لبنان والعراق وسوريا واليمن وإحياء قدرات الأذرع لتنهض كطائر الفينيق من الرماد لاحقاً؟

وهل الدولة اليهودية ترى أن هذه هي اللحظة المواتية للدفع بعقيدتها التوراتية الى الأمام لأنها في نشوة "الانتصار"، كما يقول رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو الجاهز لنقلة نوعية توسّع خريطة إسرائيل اليوم لتصبح خريطة الدولة اليهودية التي تقتضيها العقيدة التوراتية؟

لسنا في زمن إملاء الدول الكبرى قراراتها على الدول الاقليمية. لربما كان العكس في الواقع، أما بالتحدي أو بالمراوغة. لا يوجد وزن ثقيل للدول، وعلى رأسها الدولة العظمى الوحيدة أي الولايات المتحدة. لم تعد هناك موازين بين الدول الكبرى بحيث تضغط دولة على وكيلها أو شريكها الاقليمي وتمارس الدولة الأخرى الضغوط الموازية. أما الأمم المتحدة فإنها انهارت كمنظمة فاعلة، وكآلية لفض النزاعات أو فرض التسويات، وكمجلس أمن معني بحفظ الأمن والسلم الدوليين، وكأمين عام تجرؤ إسرائيل على اعتباره شخصاً غير مرغوب به.

لربما مفتاح استعادة الاعتبار وممارسة النفوذ والتصرف بعقلانية يكمن، في لبنان بالذات، في القرار 1701 الذي ينطوي على خريطة طريق للتفكير والأداء الخلاّق لكل المعنيين، دول كبرى وأمم متحدة ودول اقليمية ودولة لبنان وكل من إيران وإسرائيل على السواء. وهذا يتطلب ليس فقط آليات وإنما جرأة سياسية من جميع الأطراف بلا استثناء.

لا يجوز للأمانة العامة للأمم المتحدة بدءاً بالأمين العام أنطونيو غوتيريش أن تستمر في زج لبنان في خانة غزة. حان للسيد غوتيريش أن يفصل بين الاثنين، أقله لأن لبنان دولة ذات سيادة فيما غزة ليست دولة عضو في الأمم المتحدة. لا حاجة لأن يستمر السيد غوتيريش بما أطلقه الأمين العام الراحل لـ"حزب الله" حسن نصرالله وأسماه "الجبهة اللبنانية لإسناد غزة"، وأدى الى توريط لبنان في حرب إسرائيل عليه.

حان الوقت لموقف واضح للأمين العام للأمم المتحدة يتبنى الفصل بين لبنان وغزة بدلاً من استمرار الربط بينهما. عملية تنفيذ القرار1701 تعطيه الفرصة، ليس لتصحيح مساره فحسب، وإنما تتطلب منه أن يلتحق بفصل الأمر الواقع بين لبنان وغزة والذي يبدو وأن غوتيريش في غيبوبة عنه.
فلتستفق الأمانة العامة للأمم المتحدة لأن هذه فرصتها للخروج من خانة الفشل وانعدام الجدوى. لتستعد لدور مميّز لها عبر بوابة الجنوب اللبناني الذي سيحتاج الى نوع من الحماية الدولية عبر تعزيز قوات الأمم المتحدة الموقتة في جنوب لبنان (يونيفيل) لتقوم بمهماتها، وعبر توفير الحماية للمدنيين وتنسيق الدعم الدولي الضروري لإعادة تأهيل المليون مهجّر وإعادة بناء الجنوب المدمّر.

وان قررت الأمانة العامة للأمم المتحدة أن تتغيّب، ستنسف نفسها أكثر من المعادلة لأن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول اقليمية بدأت هذا النقاش الذي يصب في خانة تنفيذ الـ 1701، بمعزل عن غزة.
لماذا تنفيذ 1701الـ بات فائق الأهمية اليوم؟ لأن "حزب الله" لم يعد قادراً على فرض نفسه بالقوة في الحزام بين الحدود اللبنانية- الإسرائيلية وبين نهر الليطاني حيث كان يجب على الدولة اللبنانية بسط سلطتها حصراً هناك. "حزب الله" صادر سيادة الدولة والقرار 1701 وفرض نفسه مكان الجيش فاغتصب القرار 1701. وإسرائيل أيضاً اغتصبت القرار بتكرار انتهاكاتها للأجواء اللبنانية، ثم أخيراً بالتوغل في الأراضي الجنوبية.

اليوم، وفي أعقاب أسبوعين من بدء العمليات الإسرائيلية النوعية ضد "حزب الله" بقياداته وبنيته العسكرية التحتية، بات جاهزا الآن للانسحاب الى شمال الليطاني كما يؤكد كل من رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ورئيس البرلمان نبيه بري. ان كان يفعل ذلك غصباً عنه أو برضاه، المهم التأكد من تمكين الجيش اللبناني بكل الإمكانيات التي يحتاجها للحل مكان "حزب الله" في الجنوب تؤازره بذلك اليونيفيل المعزّزة.

هذا ليس صعباً إذا صدق العزم الأميركي والأوروبي والعربي على توفير هذه الإمكانيات وبسرعة. وهذا ما سيقطع الطريق على، أما اضطرار إسرائيل لإعادة احتلال المنطقة العازلة لأن هناك حقاً فراغا يهددها، أو على رغبتها بأن تقوم بنفسها بفرض المنطقة العازلة لأنها لا تثق إلا بنفسها، لاسيما وهي تتعهد إعادة المستوطنين الى شمال إسرائيل بأمان.
المسؤولية تقع على القيادات الحكومية اللبنانية وفي مطلعها أن يتوقف نبيه بري عن اشتراط انتخاب رئيس للجمهورية ببدعة الحوار. حان الوقت للرئيس بري أن يُخرج مفتاح مجلس النواب من جيبه ويعقد جلسة انتخاب رئيس للجمهورية بلا شروط ولا أعذار. وإلا، فإن التاريخ سيسجّل له أنه خذل لبنان. ثم أن ذكاء الرئيس بري الخارق يجب ألا يُستخدم الآن لإخراج الصيغ والتلاعب على الكلام. فهذه ليست مرحلة التذاكي وإنما هي لحظة الحكمة.

وبالتالي، من الضروري لكل من بري وميقاتي والقيادات السياسية في لبنان التحلي بالجرأة لإنقاذ لبنان بدلاً من الاستمرار في الاختباء وراء الخوف من "حزب الله". بمعنى، ان تنفيذ القرار 1701 يعني تنفيذ القرار 1559 الذي يتحفظ الرئيس بري عنه لأنه يطالب بنزع سلاح "حزب الله" وسلاح الفصائل الفلسطينية في لبنان.

لا مجال لإلغاء 1559 عبر صيغة هنا وصيغ هناك. الآليات التي تُبحث لتنفيذ القرار 1701 تأخذ في حسابها ألاّ يبدأ التنفيذ بشق الـ 1559. ولكن، إذا سارت القيادات اللبنانية بمساومة أو مراوغة في تنفيذ القرار 1701 أو في أوهام تعديله لحذف 1559 منه، لخسر لبنان فرصة تنفيذ القرار الذي يعيد السلطة والهيبة الى الدولة اللبنانية ويقطع الطريق على إعادة احتلال إسرائيل لجنوب لبنان. ومرة أخرى، وللتأكيد، ليس القصد البدء بتنفيذ 1559 الذي يعيد 1701 تأكيده في فقرات عدة، وإنما القصد هو قطع الطريق على كل ما من شأنه تعطيل تنفيذ الـ 1701 وعودة السيادة اللبنانية الى جنوب لبنان.
القرار 1701 هو البوصلة، وهذا ما تؤمن به الدبلوماسية الفرنسية والأميركية التي تعمل على سكة لبنان. إيران معنية لأنها ما زالت تنظر الى لبنان على أنه ساحتها، بل أن السفير الإيراني لدى الأمم المتحدة قفز على السيادة اللبنانية وسعى لطلب انعقاد جلسة لمجلس الأمن في محاولة فاضحة لمصادرة السيادة اللبنانية. حتى الجزائر العضو العربي الوحيد في مجلس الأمن كانت مستاءة من تصرف إيران.

لكن إيران تبقى أساسية في كل التفاهمات، بالذات من وجهة نظر الإدارة الأميركية التي يعتقد أقطابها المعنيون بلبنان أن موافقة "حزب الله" على الانسحاب من الجنوب عائدة الى إيعاز من طهران.

صحيح ان العلاقة بين طهران و"حزب الله" تمر بمرحلة انعدام الثقة والعتب والغضب، بل أنها تتعرض لتساؤلات عما إذا كانت إيران طرحت "حزب الله" تحت الدولاب الإسرائيلي في إطار الصفقة التي يتم إعدادها وراء الكواليس بين إيران وإدارة الرئيس جو بايدن وخلفها تفاهم وتعاون وتنسيق مع إسرائيل.

بالطبع هناك من يتحدى قطعاً مثل هذا السيناريو ويخوّن من يتحدث به، إنما هناك أيضاً من يعتقد أن لا مجال لإسرائيل لتحقيق ما حققته من نسف لـ"حزب الله" من دون، أما تعاونٍ من إيران، أو خرقٍ مذهل في عمقها. لماذا التعاون، قد يقال؟ لأن المصلحة القومية الإيرانية لها الأولوية لدى طهران حتى ولو اقتضت التضحية بأغلى أذرعها- ولو موقتاً.

العلاقة الإيرانية مع إدارة بايدن دقيقة وخطيرة، مفيدة ومضرة، لكنها فائقة الأهمية للطرفين. لذلك ان النقاش والتفاوض مستمران بينهما عبر الوسطاء، بل ان لقاءً قصيراً حدث في نيويورك وجهاً لوجه بين الرئيس الإيراني ووزير الخارجية الأميركي بعيداً عن الأضواء وبكثير من السرية. والهدف منه كان تأكيد صدق عزم الطرفين على إحداث نقلة نوعية في العلاقات إذا التزم كل منهما تعهداته.

بيت القصيد هنا، هو أن التعهدات التي يريدها الأميركيون من الإيرانيين تتطلب قطعاً إعادة نظر طهران بعقيدة الثورة الإيرانية وفي مقدمتها التوقف عن استخدام الوكلاء والميليشيات والقوات غير النظامية في دول سيادية مثل لبنان والعراق وسوريا واليمن لتخدم المصالح والأهداف الإيرانية. هذا مقابل تطبيع العلاقة الأميركية والأوروبية مع طهران ورفع العقوبات عنها والقبول بحقها في أن تكون دولة نووية سلمية وليس اقتناء السلاح النووي.

إدارة بايدن حريصة على انضاج الصفقة مع إيران وهي تحركت بحزم عندما استعدت إسرائيل للانتقام من إطلاق إيران 200 صاروخاً عليها الأسبوع الماضي وكان في بنك انتقامها شن غارات على منشآت نووية ومنشآت نفطية. ما قالته إدارة بايدن لإسرائيل باختصار هو أن الشعب الأميركي لا يريد أن تجره إسرائيل الى حرب أميركية مع إيران وأن على إسرائيل ألاّ تفترض أن غطاءً أميركياً عسكرياً لغارات على منشآت نووية أو نفطية في الجيب الإسرائيلي.

بكلام آخر، ردعت واشنطن إسرائيل عن الانتقام نووياً أو نفطياً من إيران مشيرة الى إمكانية رد إيران نووياً وما يترتب على ذلك، والى ارتفاع أسعار النفط في الأشهر الأخيرة من الانتخابات الرئاسية الأميركية. فتحت أمامها باب الانتقام من الأذرع الإيرانية أينما كان في لبنان أو العراق أو سوريا أو اليمن، إنما ليس الانتقام مباشرة من إيران.

أتى ذلك بموافقة إيرانية على تقنين الانتقام بالوكلاء شرط ألاّ يطال إيران. وهذا ما يفسّر تفاقم الغارات الإسرائيلية على مواقع "حزب الله" في الجنوب اللبناني وفي الضاحية الجنوبية ومختلف المواقع في عاصمة لبنان في خضم أجواء انتقام إسرائيل من صواريخ إيران على أراضيها.

إسرائيل قد تقرر أن تغامر وأن تضرب منشآت نووية إيرانية كي تجبر أميركا على الانصياع لمطالبها. لكن هذه مغامرة مكلفة وخطيرة، لاسيما أن إسرائيل ستحارب على ثلاث جبهات، لبنان وفلسطين وإيران، وهذا ليس سهلاً عسكرياً ضمن قدراتها مهما كابرت، وقد تخاف من تداعيات انتقامها.

نحن على مفترق طريق بين العقيدتين الإيرانية والإسرائيلية. فإذا لم يطرأ تغيير جدّي في اتجاه إصلاح العقيدتين، سنبقى في تأرجحٍ بين تطرّفين خطيرين. أما إذا صدقت طهران في أنها جاهزة لإصلاح منطق وجود النظام، وإذا اكتفت إسرائيل بما أنجزته بالذات في لبنان وبموافقة ضمنية إيرانية، قد نكون على عتبة جديدة بوابتها تنفيذ القرار 1701 إذا لم تنسفه القيادات اللبنانية بتحايلها على آليات تنفيذ كامل بنود القرار وتنسف معه فرصة خلاص لبنان من احتلالٍ إسرائيلي أو احتلالٍ إيراني له بالإنابة.