يعتقد فلاسفة الحروب أن الحرب هي الوحيدة التي تحقق الأهداف، وتكسر الأعداء والخصوم، وتحذر المنافسين، لكن هذه النظرية لدى هؤلاء الفلاسفة نظرية خاطئة.

الواقع يقول إن الدخول في الحرب سهل، لكنه يقود إلى مأزق كبير عند التفكير في الخروج، ولا سيما عندما تكون حرباً من أجل الحرب لاستعراض القوة، والمبارزة الاستراتيجية. إن ما تقوم به إسرائيل من تدمير على مسرح الإقليم العربي ينتمي إلى نظرية فلاسفة الحرب للحرب، وينطلق من قاموس المبارزة الاستراتيجية لتخويف الإقليم، وخلخلة مفهوم الأمان داخل الدول الوطنية المستقرة.

يعيش الإقليم في قلب هذه النظرية الخطيرة، التي يؤمن بها بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، وأحد تلاميذ فلاسفة هذا النوع من الحروب، التي كان يؤمن بها «جابوتنسكي»، الذي كان يرى ضرورة الاستخدام الدائم للسيف على الرقاب، وأن أي مساحة أرض يصل إليها الجندي الإسرائيلي فهي مِلك له، كما كان يرى أنه يجب أن يتم بناء حائط حديدي بين إسرائيل وبقية الإقليم، وإذا ما أتيحت الفرصة لإسرائيل، فإنها تكسر الحائط الحديدي، وتضم مزيداً من الأراضي، وهي نفس الفلسفة التي تحكم الحرب الدائرة الآن، وتبدو واضحة في خريطة نتنياهو، التي رفعها من فوق منصة الأمم المتحدة، وأعاد تكرارها في تصريحات واضحة، عندما قال: «إن أيادينا تطول كل مكان في الشرق الأوسط، بل في العالم».

إن وهم أصحاب هذه النظرية وأحفادهم لا يتعلمون من دروس التاريخ، فالتورط في الحرب أحياناً يكون مُغرياً تحت نشوة الاستعراض والمبارزة، ومحاولة فرض النفوذ، بينما لحظة الخروج هي لحظة المأزق الكبير، فعندما تنغرس أقدام الحرب في الوحل، تصبح دروب الخروج وعرة ومسدودة في النهاية، وتفشل نظرية هؤلاء الفلاسفة، ويجدون أنفسهم أسرى لحرب استنزاف لا نهاية لها، بل يصعب على متخذ قرار الحرب، أن يتخذ قراراً بإسكات أصوات المدافع.

منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023، اندلعت الحرب الإسرائيلية على غزة، كان يمكن أن تتوقف بعد أيام، أو أسابيع، أو أشهر، لكن هؤلاء الفلاسفة من طهاة الموت قرروا مواصلة نظرية الاستيلاء على مقدرات الخرائط، وأصولها الوطنية، وترويع الشعوب، وكسر جدار المستقبل، ولذا انحاز هؤلاء إلى سيناريو الحرب الدائمة، والمستمرة والمتسعة على مسارح عمليات الإقليم، من دون أن يرتدعوا بقانون دولي، أو قانون إنساني، أو حتى نداءات من حلفائهم الموثوقين، وها هي الحرب تتسع يوماً بعد يوم، وتشد أطرافاً بعيدة لم تفكر يوماً في خوض حرب، لكنها عرضاً قد تجد نفسها مضطرة لخوض معركة لم تتوقعها.

إن المأزق الحقيقي الآن هو اختفاء أي سيناريو محتمل لنهاية الحرب الإسرائيلية، المتسعة على المسرح العربي، ولا سيما أنها تشد قوى إقليمية غير عربية مثل إيران، إلى مسرح العمليات، الذي يدور على أراضي المنطقة العربية، والطرفان يتصادمان، على هذه الأرض والضحية مقدرات الشعوب العربية، ومستقبل المنطقة، ومن ثم فإن منسوب الخسائر المستقبلية يزداد ويرتفع، كما حكى لنا التاريخ عن تجاربه المؤلمة.

وإذا عدنا بالذاكرة، فسنجد أثماناً باهظة دفعتها البشرية، نتيجة أوهام فلاسفة الحرب هؤلاء، وبسبب الإصرار على الإقامة داخل الحروب، وكذلك اندلاع الحروب العرضية التي تسببت فيها الحروب الأصلية.

مثلاً اندلعت الحربان العالميتان الأولى والثانية عرضاً، وتسببت في هلاك ملايين الضحايا، وتدمير البنية البشرية، ولا تزال الآثار السلبية لهاتين الحربين واضحة؛ بسبب الدواء الخاطئ الذي وصفه فلاسفة الحرب، والنتيجة واضحة أمامنا، ومتمثلة في الخلل السياسي في المجتمع الدولي، المنحاز لمجموعة دول تستحوذ على القرار والقانون الدولي، من خلال امتلاكها حق النقض «الفيتو»، من دون بقية الدول.

نفس النهج الفلسفي للحروب قاد الولايات المتحدة إلى التورط في الحرب الكورية، في بداية خمسينات القرن الماضي، وبعدها بزمن قصير تورطت أميركا نفسها في مستنقع آخر هو المستنقع الفيتنامي، الذي استمر من الخمسينات إلى منتصف السبعينات، وبعد ذلك واصلت أميركا مسار التورط، عندما وجدت نفسها في أفغانستان، ثم العراق في عقد واحد، ولا تزال متورطة في رمال الشرق الأوسط المتحركة، والغريب أنها تتورط الآن، بوصايا فلاسفتها في الحروب من جانب، وبفعل وصايا فلاسفة نتنياهو من جانب آخر.

إن الخطر الأكبر هو أن تواصل أميركا الدخول في دوائر التورط، وتنغرس في رمال الشرق الأوسط المتحركة، دفاعاً عن حليفتها إسرائيل، فإن حدث ذلك، فلن تستطيع، هذه المرة، الخروج من هذه الرمال، وسيدفع العالم ثمن أوهام فلاسفة الحروب وخداع طهاة الموت.