جاء وقت قرّر فيه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، أن يكون السفير أحمد قطان وزيراً يحمل حقيبة أفريقيا في مجلس الوزراء.

ورغم أن المملكة ليست دولة أفريقية، فإنها تطل على القارة السمراء من فوق الشاطئ الشرقي للبحر الأحمر، الذي وإنْ كان يفصل آسيا عن أفريقيا، إلا أنه يظل بحراً آسيوياً أفريقياً، بحكم حقائق الجغرافيا التي شقّت له مجرى في مكانه بين القارتين.

وإذا كان هذا البحر يعرف الآن تجمعاً سياسياً اسمه «الدول المُشاطئة للبحر الأحمر»، فهي دول نصفها أفريقي يقع على شاطئه الغربي، ونصفها الآخر آسيوي يستقر على شاطئه الشرقي، وما بين الشاطئين تتصل مصالح دول التجمع وتتشابك. وربما كان هذا هو الذي جعل خادم الحرمين الشريفين يأتي بالسفير قطان وزيراً، ثم يرسله في جولات مكوكية لم تشأ أن تستثني دولة من دول القارة على تعدُّدها وامتدادها على الخريطة.

والذين يتابعون شأن القارة السمراء هذه الأيام، لا بد أنهم يلاحظون أن القوى الكبرى في العالم تبدو كأنها تكتشف من جديد أن في العالم قارة اسمها أفريقيا، وأنها قارة غنية بالموارد بقدر غناها بالبشر؛ ولذلك راحت هذه القوى تجري نحوها وتتسابق، فكانت الصين هي تقريباً الأسبق من غيرها، ومن بعدها تتابعت سائر القوى، بدءاً من الأميركيين وانتهاءً بالروس، وما بينهما من الأوروبيين في القارة العجوز وغيرها. وذات يوم وقف جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأميركي المعروف، فقال في مؤتمر صحافي له بإحدى الدول الأفريقية، إن بلاده وضعت برنامج عمل يُحاصر الروس وسواهم في أفريقيا.

كل ذلك كان يجري في العلن، لا في السر، وكانت أفريقيا التي تُعادل مساحتها مساحة الصين والولايات المتحدة وأوروبا مجتمعة تبدو مغرية للذين يتسابقون نحوها في كل الحالات، وكانت في الوقت نفسه تبدو مدعوة إلى أن تكتشف نفسها في المقابل.

وعندما دعا منتدى أصيلة الثقافي الدولي إلى دورته هذه السنة، كانت قضايا القارة السمراء على رأس جدول أعمال المنتدى، وكان أمينه العام محمد بن عيسى يقول في يوم افتتاحه يوم 14 من الشهر الحالي، إن فضاء منتدى أصيلة المفتوح يمكن أن يستوعب قضايا القارة، كما استوعب قضايا سواها من قبل، وأن المنتدى اختار أن تكون قضية الحدود بين دول القارة هي محوره الأول، وربما الأهم.

ولأن الحدود الحالية من وضع القوى التي استعمرت غالبية دول القارة في مرحلة ما بعد مؤتمر برلين 1884، فإنها حدود ملغومة في أكثريتها، إذا جاز استعمال هذه الكلمة في وصفها، والسبب أن الحدود بين كل دولتين فيها تفصل بينهما أكثر مما تصل، وتنطوي على عناصر التفريق بين أفراد الشعبين في الدولتين على الجانبين، أكثر مما تضم من عوامل الحشد والتجميع.

وبالطبع فليست دول القارة كلها سواء في النظر بعين الشك والريبة إلى الحدود بينها وبين الدول الجارة، ففي أفريقيا دول ترى الحدود جسراً لا بد من العبور من خلاله فوق الأزمات والمشكلات، وهذه تُمثل قلة لسوء حظ القارة، وفيها دول أخرى تتطلع إلى الحدود، بوصفها مصنعاً لا يتوقف عن إنتاج العوائق والمعوقات، ثم إعادة إنتاجها طول الوقت.

وقد كان الرهان على أن تكون دول النوع الثاني غنية في إرادتها بقدر ما هي غنية في مواردها، ولا معنى لغنى الإرادة هنا إلا أن تعمل باستمرار على تفويت الفرصة التي من أجلها قصد المستعمر أن يزرع الحدود بما يفجرها، لا بما يهدئ منها. ولكن بدا في كثير من الحالات كأن المستعمر، وهو يصنع الحدود في زمانه، قد راح يزرع معها من أهل القارة مَنْ يظل يجعل من الحدود نزيفاً للطاقات لا يتوقف بين كل دولتين جارتين.

وقد كان كثيرون من أبناء القارة السمراء يتساءلون دائماً: ماذا ينقص قارتنا لتكون كالقارة الأوروبية على الشاطئ الآخر من البحر المتوسط؟ فعندنا موارد وقدرات بشرية ومساحات من الأرض كما عندهم، وربما أكثر، واتحاد ومفوضية أفريقيان كما عندهم اتحاد ومفوضية أوروبيان... إلى آخر القائمة. فماذا على وجه التحديد ينقصنا لنكون مثلهم؟

كان السؤال في محله كلما بادر شخص أو جهة بطرحه في العلن، ولكن المسألة لم تكن أبداً في ما عندنا مقارنة بما عندهم، وإنما كانت في الوعي بما عندنا، وفي القدرة على توظيفه بما يؤدي إلى مثل ما أدى عندهم.

وكان هذا يحتاج إلى وعي بالموضوع على مستوى الأفراد والحكومات على السواء في قارتنا السمراء، فإذا توافر مثل هذا الوعي لدى الأفراد قبل الحكومات، فإنهم يصبحون قادرين مع الوقت على الضغط على حكوماتهم، في اتجاه تحويل الحدود بين دولهم من مساحة للفصل، وربما العداء، إلى أفق للوصل والتعاون والالتقاء.

وهذه السطور دعوة إلى كل حكومة في القارة لتطلب أوراق منتدى أصيلة، لعلها تجد فيها ما يؤهل الحدود لأن تتحول من وضعية إلى وضعية أخرى، فالمنتدى عندما احتضن القارة كان في ظني يضيف خطوة في طريق الوعي المطلوب، وكان يقول إن أصيلة إذا كانت مدينة صغيرة على شاطئ الأطلنطي، لكنها قادرة على احتضان قارتها على اتساعها، لأن الاحتضان لا يكون بالذراع بالضرورة، ولكنه يمكن أن يكون بالحفاوة والاحتفاء.