في بعض الدول العربية، خاصة غير الخليجية، تتكاثف التحديات الاقتصادية؛ ويتراجع الشعور بالسعادة؛ لا يتعلق الأمر بانخفاض مستويات الدخول فقط، إنما بالتوزيع غير العادل للثروات أيضاً. فجوة اقتصادية هائلة بالدخول وسياسات أقرب إلى الفشل، ترفع درجات الاحتقان وعدم الرضا لدى الشعوب، في ظل غياب آليات ديموقراطية تمكن الناس من التعبير عن مشكلاتهم بحرّية! مملكة بوتان إن التقدم الاقتصادي مهم لتحسين جودة الحياة، بشرط أن ينبع من تنمية حقيقية، لا تجعل حصاد الثروة هدفاً بذاته، بل وسيلة لخلق مجتمع أكثر نُضجاً، يمارس إرادته الخاصة، في عالم "معولم". في هذا السياق؛ رصد أستاذ الاقتصاد البروفيسور الأميركي جيفري ساكس، مستشار الأمين العام للأمم المتحدة لأهداف التنمية، التجربة الرائدة لمملكة بوتان الواقعة بجبال الهيملايا؛ قبل أربعين عاماً، حيث رأى ملك بوتان – آنذاك - أنه يتوجب على بلاده أن تسعى لـ"السعادة المحلية الإجمالية"، بدلاً من "الناتج المحلي الإجمالي". نجحت تجربة بوتان التنموية؛ لأنها لم تركز على أرقام النمو الاقتصادي وحده، بل على التعليم والصحة والتعاطف والثقافة، إلخ؛ عبر سياسات عامة تنظم الحياة الاقتصادية؛ من أجل إعادة خلق روح مجتمع بوتان؛ هذا النجاح أظهر أهمية السعي للسعادة، بدلاً من اللهاث وراء الدخل الوطني؛ فالحصول على دخل أعلى، أحد مصادر السعادة في حياة الأفراد والأمم، لكن ليس دائماً بالضرورة. حدد ساكس آليات للوصول إلى سعادة الأفراد والمجتمع، من بينها: الاهتمام بالتقدم الاقتصادي؛ لأنه عندما يكون الناس جوعى ومحرومين من الخدمات والصحة والتعليم والعمل الجيد، فإنهم يعانون بشدة؛ إذ تتكثف ظواهر: الفقر المدقع وسيادة اقتصاد الريع وتدني الإنتاجية وتشوه توزيعات الناتج الوطني وتزايد حجم الفئات المهمشة والفقيرة، على حساب الفئات الوسطى، واتساع دائرة الاقتصاد غير الرسمي والبطالة، وتنامي التفاوت الاجتماعي بين الفئات المحظوظة والمسحوقة... وكلّها مظاهر تعكس خللاً بنيوياً في رسم سياسات التنمية، بأي بلد. سياسات تقوم عليها نخب متحكمة، لا تراعي متطلبات الناس واحتياجاتهم، ومن ثمّ تجفف منابع سعادتهم. السر في التوازن لذا يشدد ساكس على أن التنمية الاقتصادية تخفف حدة الفقر، وتلك خطوة لا بد منها لتعزيز السعادة. المفارقة أن الولايات المتحدة، مثلاً، شهدت خلال السنوات الأربعين الماضية ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي، لكن السعادة تراجعت؛ للتفاوت الواسع في الثروة والقوة، وزيادة أعداد الفقراء، والتدهور البيئي. إن الحياة المتوازنة هي أساس سعادة الأفراد والمجتمعات؛ الأفراد لا يكونون سعداء عندما يُحرمون من الاحتياجات المادية الأساسية، أو يركزون على تحصيل "الدخل الأعلى" فقط، بدل العائلة والأصدقاء والتعاطف. وبالنسبة للمجتمع، تنظيم السياسات الاقتصادية لرفع مستوى معيشة المواطنين شيء، وتسخير قيم المجتمع لخدمة الربح لفئة محدودة شيء آخر؛ فمثلاً، سمحت السياسات في أميركا لأرباح الشركات بالهيمنة على: العدالة، والثقة، والصحة الجسدية والعقلية. كذلك قوضت مساهمات الشركات في الحملات الانتخابية طبيعة الممارسة الديموقراطية؛ لهذا اعتبر ساكس "الرأسمالية العالمية" تهديداً مباشراً لسعادة البشر؛ تدمر البيئة من خلال التلوث والتغير المناخي، وتدفع الأميركيين إلى الإدمان الاستهلاكي. الأهم أن السعي المجنون للربح (وحده) يهددنا جميعاً، تنفق معظم البلدان الكثير لدفع أرقام الناتج المحلي الإجمالي، لكنها تنفق القليل على تحديد أسباب الأمراض والشقاء الإنساني والانحدار البيئي. لذا يجب أن ندعم النمو الاقتصادي والتنمية، لكن فقط في سياق أعم: أي النمو الذي يروج لقيم التعاطف والشفافية والعدالة الاجتماعية والاستدامة البيئية؛ فلا يمكننا أن نعالج النمو الاقتصادي باعتباره غاية في ذاته، إنما يلزم أن تكون التنمية معنية أكثر بتعزيز جودة الحياة ودعم الحرية؛ فكلما زادت مساحة الحرية، ارتفعت معدلات الإنتاجية التي تعود على المجتمع بمزيد من الكفاءة والاستقلالية. التنمية حرية التنمية الحقيقية هي عملية توسيع لحريات الناس وقدراتهم؛ هذا ما خلص إليه أماراتيا صن الحائز على نوبل في الاقتصاد، في كتابه "التنمية حرية"، إذ جعل من الحرية معياراً رئيساً للتنمية وهدفاً في آن؛ من خلال ربط الحرية بمستوى الدخل، وفرص البقاء، والرعاية الصحية، والأمن الاقتصادي، وغيرها من أوجه التنمية، ليبرهن على الصلة الوثيقة بين الحرية والتنمية. من هذا المنظور تكون التنمية الاقتصادية شرطاً للحرية، والحرية شرطاً للتنمية أيضاً؛ وتكون ممارسة الحرية بتكافؤ من قبل المواطنين، شرطاً لا بد منه للمشاركة الفعالة في العملية الإنتاجية للمجتمع، والاستفادة المتساوية من الفائض الاقتصادي المؤسس للحرية؛ حتى يتمكن المواطنون من الوصول إلى الموارد وبناء اختياراتهم في حياتهم اليومية، بعدالة، تمكنهم من تلبية حاجاتهم المعيشية، في تقرير شؤونهم دون خوف. تفرز استراتيجيات التنمية الناجحة فاعلين جدداً على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، تجعل للفئات المهمشة في المجتمع صوتاً مسموعاً بالساحة؛ ما يغير قواعد المشاركة السياسية وأبنية المجتمع، على نحو يُنمي معدلات الانتماء والثقة بالمستقبل، وبالتالي السعادة بالمجتمع؛ فهل هذا ممكن في الشرق الأوسط "السعيد"؟!
- آخر تحديث :
التعليقات