أنسنة الحرب وإنقاذ ضحايا الأزمات هما السبيل الوحيد لبناء موقف موحد تجاه هذه الهمجية الإسرائيلية. أي تعالٍ على ذلك ومحاولة تحشيد موقف موحد تجاه ما كان ممزقاً ومنقسماً قبل السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 لن يقدم أي شيء، فالغالبية من الأجيال الجديدة غير المسيسة الذين يشكلون غالبية سكان البلدان العربية والإسلامية وحتى المهاجرين في الدول الأوروبية والولايات المتحدة باتت لديها عدمية لا تخطئها العين، وتعززها أرقام الاستطلاعات بسبب تدفق الميديا المروعة عن ضحايا الحرب في فلسطين ولبنان، كما أنهم في غالبيتهم معزولون عن السياقات المفاهيمية والجيوسياسية المعقدة للأزمات في المنطقة.
هناك قلق كبير على تحول أجزاء كبيرة من الأجيال الجديدة صوب التطرف بسبب حالة العدمية، بسبب فشل دول العالم والمؤسسات الدولية والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان عن إيقاف الوحشية الإسرائيلية وكبح جماح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ومن معه من اليمين المتطرف من إيقاف المجازر ومشروع الانتقام الوحشي، رغم أن كثراً من تلك الأجيال لديهم اتفاق على المفاهيم الأساسية ضد استهداف المدنيين والأبرياء تحت أي ذريعة، لكنهم بالطبع لا يمكن اليوم إلا أن يتجاوزوا مرحلة السابع من أكتوبر بعد مرور سنة بسبب متابعة اليومي والآني من نزيف الدم والآلام التي يعيشها الأبرياء في غزة والتي استحالت بحسب وصف حتى الصحافة الغربية أكبر مقبرة للأطفال.
وبجانب غزة، فتجدد تصعيد إسرائيل في لبنان، سيخلق الشعور ذاته مع خروجه عن استهداف بنية الميليشيات إلى التدمير الممنهج للمدن والقرى والبلدات والأحياء في البقاع والجنوب وضاحية بيروت، وما تبع ذلك من تحولات ديموغرافية وإعادة تحشيد للبنانيين، خصوصاً من الطائفة الشيعية التي باتت تعيش حالة التذرر والتيه، ولا يعني ذلك تحقيق انفصالها عن البيئة الحاضنة لـ«حزب الله» حتى مع تهشمه.
نحن اليوم في حاجة إلى تعميم خطاب «أنسنة الحرب»، وهو يعني بالضرورة الاعتراف بالاختلافات الكبيرة والبون الشاسع بين المواقف في الداخلَين العربي والإسلامي تجاه ما حدث من الموقف من الميليشيات ومشروع إيران وأذرعها وصولاً إلى خيارات إعلان الحرب والمواجهة، وحتى اليأس من كثير من البدائل السياسية، لكن كل ذلك لا يخفي إجماعاً على الانتصار للإنسان وللضحايا والأبرياء وللأطفال الذين هم وقود الحرب، وضد هذه الهمجية الانتقامية التي لا يمكن أن تقود إلى شيء.
أنسنة الحرب تعني أولاً فضح ازدواجية المعايير للعالم الغربي وعدم قبول استراتيجية الانتقام بلا توقف من قِبل نتنياهو وأنصاره، مع الإصرار على ضرورة وقف الحرب خطوةً أولى وضرورة العودة إلى الحد الأدنى من الاتفاقيات الدولية والمواثيق ومنطق الدولة، وأنسنة الحرب تعني التموضع حول حقوق الضحايا من دون تمييز، خصوصاً أنهم لم يتخذوا قرار الحرب أو الانسياق حول خيارات المشروعات المستنبتة في أرضهم من قِبل ميليشيا ومشروعات متجاوزة للدولة القُطرية وحدودها، وكان جزءاً منها هو القدرة على استبدال أدوار الدولة والتلبس بقناعها في مسألة السيادة والأمن، والإخفاق في تحسين أوضاع الناس حتى للمنتمين إلى البيئة والآيديولوجية كليهما، ناهيك عن ارتكاب كوارث لا يمكن التبرير لها ساهمت في تجريف العقد الاجتماعي والدخول في حروب خارج الحدود.
ثمة قلق حقيقي اليوم يتبدى للعقلاء ليس على الآني ومصير الأحداث بقدر التأثيرات على مستقبل المنطقة متجسداً في الأجيال الشابة وقدرتها على استيعاب هذه الكوارث من حالة التدمير الهائل والصمت الدولي المطبق مع موجات التصعيد لخطابات الطائفية والانقسام السياسي على حساب العمل على إنقاذ الأبرياء والضحايا والضغط تجاه إيقاف الحرب.
وربما كان صوت دول الاعتدال الأعلى وفي مقدمتها السعودية بإصرارها على ضرورة خفض التصعيد ووقف الحرب والعمل على تكريس منطق الدولة مع تجاوز كل خطابات الاستهداف لموقفها المبدئي من قبل تجار الأزمات ودهاقنة الشعارات الآيديولوجية التي تدفع باتجاه مفاقمة الوضع السيئ باتجاه المجهول، وهو ما يجب أن يؤسس لخطاب عقلاني جديد ضد كل السرديات، ينتصر للأبرياء ويؤنسن حالة الحرب بإنقاذ الضحايا في ظل هذا الفشل الكبير لدول العالم ومؤسساته.
التعليقات