هل سيبقى لبنان أم يتفتت؟ سؤال لا يود الكثيرون سماعه ولا الإجابة عليه، لكنه يفرض نفسه منذ عام 1975، مع بدء ظهور تداعيات سقوط بنك إنترا، مروراً بالحرب الأهلية، ومئات الأحداث المفصلية الأخرى، التي نخرت في جسد الدولة اللبنانية، وطال النخر جسد المواطن اللبناني نفسه.
يقول نجيب علم الدين، أحد أباطرة الاقتصاد اللبناني، الذي على يده توسعت «الميدل إيست»، إن لبنان حكمته شخصيات فاسدة من دون أخلاق، فأصابته بداء قاتل، وشكّل الداء مصدر تهديد لكامل وجود لبنان كدولة مستقلة.
من المؤكد أن أغلبية من كوّنوا ثرواتهم الضخمة في لبنان فعلوا ذلك من خلال نظام «الفوضى الاقتصادية اللبنانية»، التي بدأت في الخمسينيات، ولا تزال مستمرة، مع عجز الدولة عن بناء معمل كهرباء واحد على مدى أكثر من ربع قرن، لأن نظام فوضى تجّار المازوت ومولدات الكهرباء منع ذلك، هذا بخلاف سرقة معظم وزراء الكهرباء ما رُصد لبناء المحطات من أموال، وكانت بمئات ملايين الدولارات. وجاء فصل الختام في نظام «الفوضى الاقتصادية» باستيلاء مجالس إدارات أغلبية البنوك اللبنانية على أرصدة مودعيها، في ظاهرة لم تعرفها أية دولة في العالم.
بيروت تحكم لبنان، ولبنان تحكمه قوى معروفة، لكن لا يمكن رؤيتها، ولا الاقتراب منها، وعلى رأسها الآلة الحزبية الطائفية والعنصرية، وخليط من زعماء المافيات، الذين عرفوا كيف يستخدمون نظام الفوضى الاقتصادية لتحقيق ثرواتهم الضخمة.
بدأت الدولة اللبنانية ببذل بعض الجهد لتحسين أوضاع الشيعة في الجنوب، في عهد فؤاد شهاب، في بداية الستينيات، من خلال فرص أفضل في التعليم والتوظيف في الحكومة والجيش. وعمل ياسر عرفات، بعدها بسنوات، من خلال الأموال، التي كانت تتدفق عليه من الدول العربية، على نشر قوات فتح في جنوب لبنان، بسكوت رسمي، ومباركة عربية إسلامية. وبعد أن تأسست حركة أمل، تمكنت من تنشئة هوية شيعية مستقلة عن الولاءات للعائلات الشيعية التقليدية، ومستقلة عن الانتماءات إلى التنظيمات السياسية اليسارية والقومية، وكونت جناحاً عسكرياً لها. وبعد انتشار الجيش السوري في لبنان، بتفويض عربي ودولي، عام 1976، تحالفت «أمل» مع السوريين، مقابل تدهور العلاقة بين الفلسطينيين والسوريين.
لذا قامت إيران، بعد 3 سنوات من ثورتها، بتأسيس «حزب الله»، وسمح الأسد لعناصر من الحرس الثوري بالدخول إلى سهل البقاع اللبناني لتدريب كوادر الحزب. لكن سرعان ما تدهورت العلاقة بين سوريا و«حزب الله»، عندما اندلع القتال بينهما في غرب بيروت في 1986. وبعدها بفترة قتلت القوات السورية 80 من مقاتلي «حزب الله»، عندما كان صبحي الطفيلي يرأس الحزب، ولم يتوقف الصراع بين السوريين و«أمل» ضد «حزب الله»، إلا في نوفمبر 1990، بعد أن تصالحت سوريا وإيران.
كما تأثرت صورة الحزب، لدى البعض، بعد وقوفه مع النظام في سوريا، مع تأييد البعض لذلك الوقوف. وقد نشر الزميل جهاد الزين: رسالة مفتوحة للسيد خامنئي، تساءل فيها عن سبب تكليف اللبنانيين، والجنوبيين، بالذات، مشاركة «حماس» في الحرب ضد إسرائيل، في الوقت الذي امتنعت فيه كل الدول العربية، وحتى إيران نفسها، عن المشاركة فيها؟
ويصف الكاتب الأردني، عبدالهادي راجي المجالي، لبنان بأنه مصنع فرح، وهذا صحيح، وهو ما نراه على وجوه العشرة آلاف لبناني ولبنانية، الذين يشكلون أغلبية رواد المقاهي والمطاعم، فيرفعون من شأن هذا الشارع أو تلك المنطقة، ويذلون غيرها، لكن القلة ترى دموع الثكالى، في المناطق المحرومة، خلف الأبواب المغلقة، فصحيح أن لبنان مصنع فرح، إلا أنه أيضاً مصنع دموع وآلام، وأم أرملة وأب مكسور الظهر.
***
جيل الستينيات كان يتقلب في ولائه السياحي بين القاهرة وبيروت، وكنت منذ اليوم الأول، لأسباب يطول شرحها، مع بيروت، فقد وجدت نفسي مع نفسيات شعبها وأسلوب معيشته، وحبه للحياة، لذا لم أقترب، ولو لثانية حتى، من «فكر الحزب». كما كنت أختلف معه لإصراره على التركيز على القضايا العقائدية، وإهماله التام لكل القضايا الأخرى، بحجة أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وكانت النتيجة ما شاهدناه من قتل وجرح وهرب واختفاء لكل قادته وأطره، بعد أن حولوا أغلبية شيعة الجنوب والبقاع لعملية غسل دماغ، والقضاء على ما تبقى من حيويته، وتحويله إلى إنسان قابل للموت، كاره للحياة.
وإلى مقال الغد.
أحمد الصراف
التعليقات