بات التساؤل المطروح بقوة ونحن على عتبات موعد الانتخابات الرئاسية في أميركا في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: هل انتخابات الرئاسة الأميركية المقبلة هي الأهم في تاريخ البلاد؟

المؤكد أنه ليست أعين الأميركيين فحسب التي تتطلع للجواب عن هذا التساؤل، بل بقية أطياف وأطراف العالم، لا سيما في ظل حالة الفوضى الأممية السائدة، وانعدام اليقين لجهة مآلات الغد الاقتصادية والعسكرية على حد سواء.

تبدو الحقيقة أن كل نتائج انتخابات، والحكومات التي تفرزها، ليست سوى مؤشرات تُظهر المشاعر والتوجهات العامة السائدة، كما أن الإدارات الوليدة، جمهورية كانت أم ديمقراطية، لا تفعل أكثر من إرساء النظام العام، وبلورة توجهات تبنَّاها الشعب الأميركي عاطفياً وفكرياً.

ثلاثة مشاهد لا تُنسى في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية تؤكد ما نقوله، وتلقي بظلالها على الانتخابات المقبلة.

بداية من عند الرئيس الثاني للبلاد، جون آدامز، ذاك الذي عبَّر بطلاقة عن العلاقة بين المشاعر والفعل، عندما أشار إلى أنه قبل وقت طويل من إطلاق الرصاصة الأولى في ليكسينغتون، التي أشعلت حرب الاستقلال ضد البريطانيين، كانت «الثورة قد اندلعت في عقول الناس».

ثانياً، حين جرى إطلاق الرصاص في معركة فورت سمتر عام 1861، كانت البلاد منقسمة بالفعل، ومهيأة لأربع سنوات من الحرب الأهلية.

ثالثاً عام 1964، كان الأميركيون قد حسموا أمرهم بشأن الحقوق المدنية وإنصاف الأميركيين من أصل أفريقي، قبل وقت طويل من اغتيال جون كيندي، الذي ضمن فعلياً إقرار قانون الحقوق المدنية.

أي إدارة ينتظرها الأميركيون؟

المقدمات تقود إلى النتائج، والصراع في الداخل الأميركي اليوم ينتقل من مستوى النسبي إلى المطلق، والديالكتيك الديني الذي أشعلته كامالا هاريس قبل أيام في جامعة ويسكونسن، كفيل بإطلاق شرارة الصراعات العقدية الدوغمائية في عقول وقلوب التيار الديني اليميني، ما يرجح من كفة المرشح الجمهوري ويختصم من حظوظها.

دارت عجلة الانتخابات المبكرة بالفعل، ومعها بدأت مشاعر «التخوين والتخويف»، الأولى من جراء إرث الانتخابات الرئاسية الماضية عام 2020، والثانية نتيجة للاتهامات المتبادلة وسوط العقاب الذي ينتظر المزورين والمتلاعبين بالأصوات، سواء كان هذا العقاب رسمياً من خلال دوائر إنفاذ القانون الدستورية، أو شعبوياً عبر انفلات يتجاوز النظام العام، وربما يعرِّض حالة الاتحاد الفيدرالي لخطر داهم.

أهمية الانتخابات المقبلة تتأتى من التساؤل عن الرؤية الخاصة بالسياسات الخارجية، ربما قبل الداخلية، وهنا تبدو كتلة ترمب هي الوازنة وبجدارة في مواجهة هاريس التي أخفقت في مكانها عبر أربع سنوات في تحقيق أي نتائج خلاقة مع بايدن، ولا تمتلك أي مؤشرات لسياسات واضحة للتعامل مع العالم وراء المحيطات.

تبدو انتخابات 2024 مفصلية بالنسبة إلى روسيا، حيث سيرث الرئيس القادم جرحاً مفتوحاً في أوكرانيا، ومن بعده تساؤل ربما هو الأخطر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية: ماذا سيكون من شأن علاقة بوتين بـ«الناتو»، حتى بعد أن تضع حرب أوكرانيا أوزارها؟

إنها انتخابات مصيرية غالباً بالنسبة إلى الصين، حيث المناورات العسكرية الأخيرة حول جزيرة تايوان، تجعل من «فخ ثيوسيديديس» أقرب الآن من أي وقت مضى.

وما بين بكين وموسكو، بالإضافة إلى نيودلهي وعدد من الدول الصاعدة عالمياً، يولد «البريكس»، ومن ثم «البريكس بلس»، بهدف لا يغيب عن الأعين، وهو مواجهة فكرة أميركا المنفردة بمقدرات القطبية الدولية، ورغبة في إحداث تغيير في الموازين المختلة والمعتلة منذ سقوط الاتحاد السوفياتي.

وبالوصول إلى أوروبا، الجار الأقرب والصديق الأكبر لأميركا، يكفينا الاستماع إلى تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عن أميركا التي لا تهتم كثيراً بعلاقاتها مع الاتحاد الأوروبي بل بالصين، ولهذا تميل توازناتها إلى دعم أستراليا لتضحى القاعدة والمنطلق في مواجهة الصين، سواء عبر الحصار البحري والاقتصادي من جانب، أو العسكري حال وقعت الواقعة من جانب آخر.

الاختبار لا يتعلق بمقام الرئاسة فحسب، بل يمتد إلى التجديد النصفي للكونغرس، وهل سيرشح عنه كونغرس مسيطَر عليه من حزب منافس لهوية الرئيس الحزبية، أم متفق معها، وربما كونغرس منقسم بدوره بين النواب والشيوخ، ما يعزز من حالة الاستقطاب السياسي التي تمثل الكارثة لا الحادثة في الداخل الأميركي اليوم.

هل روح الأمة الأميركية في خطر؟

قد يكون ذلك صحيحاً، فالفائز يمكنه ضمان بقاء أميركا ديمقراطية، أو يمضي بها نحو حكم استبدادي. أي إما رئيس يترفع عن الضغائن والصغائر، ويستهل إدارته بتسامح وتصالح داخلياً وعالمياً، أو يرسخ حالة أفولها الإمبراطوري.

من هنا تبدو بالفعل أنها واحدة من أهم، إن لم تكن أهم انتخابات أميركية معاصرة.