الاجتماع الثنائي الذي جمع بين الزعيم الهندي ناريندرا مودي ونظيره الصيني شي جينبينغ على هامش قمة «بريكس» التي انعقدت مؤخراً بمدينة قازان الروسية، والتي نجم عنها اتفاقهما على تسوية المواجهة الحدودية الطويلة بين بلديهما الجارين في القطاع الغربي من الهيمالايا، دفع المراقبين إلى إعادة فتح ملف العلاقات الباردة والمتقلبة بين القطبين الآسيويين الكبيرين.
يعتقد البعض أن خلافات البلدين أسبابها تاريخية وأيديولوجية، ويعتقد البعض الآخر أنها تعود إلى مشاكل جيواستراتيجية، ويعتقد البعض الثالث أن وراءها حرب صيف 1962 التي شنتها الصين على الهند وانتزعت من ورائها آلاف الكيلومترات المربعة من الأراضي الهندية زمن نظام ماو تسي تونغ، وهناك البعض الرابع الذي يعزي خلافاتهما إلى تنافسهما المتعاظم على النفوذ في منطقة المحيط الهندي وامتداداتها.
لكن المتتبع لمسار علاقات الطرفين البينية في العقود الأخيرة، يكتشف عاملاً آخر يتمثل في تقارب نيودلهي المتزايد من واشنطن، وهو الأمر الذي أجج ويؤجج شكوك الصينيين ويعتبرونه مخططاً هندياً ــ أمريكياً مشتركاً لاحتواء بلادهم وإعاقة تطلعاتها السياسية والاقتصادية.
والمعروف أن التوترات بين نيودلهي وبكين بدأت في عام 2017 حينما اتهمت الأولى الثانية بالقيام بأعمال استفزازية متعمدة عبر الحدود المشتركة في هضبة دوكلام الجبلية في أعالي جبال الهيمالايا عند نقطة التقاء حدود الصين والهند ومملكة بوتان، نجم عنها مقتل 20 جندياً هندياً.
وعدد غير معروف من الجنود الصينيين ثم تصاعدت منذ منتصف يونيو 2020 حينما وقعت اشتباكات دامية بالعصي والهراوات والقضبان بين جنود البلدين في منطقة غالوان الجبلية المتنازع عليها. وقتها اعتبر الكثيرون أن الحادثتين افتعلهما الصينيون، إعراباً عن قلقهم من اتفاقات وقعتها حكومة مودي مع واشنطن، صارت الهند بموجبها شريكاً وحليفاً فعلياً للولايات المتحدة في جنوب آسيا،.
لقد اعتبر الصين أن ما أقدمت عليه الهند جزء مكمل للسياسة الأمريكية الرامية لاحتوائها والتي كانت العنصر الأساسي لتوجهات إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما إبان ولايته الثانية. ولهذا قاموا بزيادة الضغط على حكومة مودي كي تتراجع وتغير انحيازها لواشنطن.
وتخفيفاً للتوتر الذي حدث في علاقات البلدين بسبب حادثة هضبة دوكلام أرسل مودي وزير خارجيته «سوبرامانيام جايشنكار» إلى بكين كي يؤكد للصينيين أن الهند لا تريد التصعيد وأنها ملتزمة بحل أي خلافات بالطرق السلمية من خلال آليات رفيعة المستوى. مهدت تلك الزيارة عقد قمة غير رسمية بين زعيمي البلدين بمدينة «ووهان» الصينية في أبريل 2018، حيث تمت مناقشة الخلافات وكيفية إدارتها.
غير أن نيودلهي مضت قدماً في تعزيز علاقاتها مع واشنطن، فوقعت في سبتمبر 2018 اتفاقية جديدة مع الولايات المتحدة خاصة بأمن المعلومات والاتصالات (CISMOA)، علماً بأنها كانت قد وقعت في أغسطس 2016 اتفاقية مماثلة حول التبادل اللوجستي (LEMOA).
وعليه فإنه حينما انعقدت القمة غير الرسمية الثانية بين مودي وشي جينبيغ بمدينة «ماهاباليبورام» الهندية في أكتوبر 2019، لم يتمخض عنها شيء، بل بدت فاشلة بكل المقاييس، بدليل أن الزعيم الصيني زار نيبال مباشرة بعد القمة، ومن هناك وجه تحذيراً شديداً قال فيه:
«أي شخص يحاول تقسيم الصين في أي جزء من البلاد سوف ينتهي به الأمر إلى أجساد محروقة وعظام محطمة»، حيث اعتبر كلامه موجهاً إلى التعاون الهندي ــ الأمريكي المطرد، بل إلى الهند تحديداً لاسيما بعد إطلاق وسائل الإعلام الهندية الموالية لحزب مودي الحاكم حملة دعائية ضد الصين وسياساتها ومشروعها الاستراتيجي المعروف باسم «الحزام والطريق».
دعك من إقدام نيودلهي في أكتوبر 2020 على توقيع اتفاقية رابعة مع واشنطن حول التعاون والتبادل الاستخباراتي (BECA)، تكملة وتعزيزاً لاتفاقية وقعت في عام 2002 حول أمن المعلومات.
مضى مودي في توثيق علاقات بلاده مع الولايات المتحدة دونما اكتراث بملاحظات واعتراضات الصين، مشدداً على أنه لا يحق لأي دولة أن تملي إرادتها على الهند وسياساتها وعلاقاتها الخارجية، وواثقاً من أن علاقته الوثيقة مع الإدارة الأمريكية ستؤمن لبلاده وصولاً تفضيلياً إلى الأسواق والاستثمارات والتكنولوجيا الأمريكية.
ونختتم بالقول إن سياسات مودي هذه لها معارضون كثر داخل الهند، خصوصاً من اليساريين والشيوعيين، وأتباع «حركة عدم الانحياز» النهروية (نسبة إلى جواهر لال نهرو) وغيرهم ممن يزعمون اليوم أن مودي اكتشف مؤخراً أن التحالف والتعاون الهندي ــ الأمريكي لم يفد الهند بشيء، خلافاً لتوقعاته، فاستدار إلى الصين، محاولاً التفاهم والتعاون معها، في إشارة إلى اجتماعه بنظيره الصيني على هامش قمة بريكس الأخيرة.(أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
التعليقات