في مجادلته للفلسفة النفعية، روى برنارد ويليامز، الفيلسوف الإنجليزي، قصة رجل اسمه «جيم»، حط رحاله فجأة في قرية صغيرة في الجنوب الأميركي. في الساحة الرئيسية للقرية، كان ثمة كتيبة من الجنود تستعد لإعدام 20 هندياً، اتهموا بالتمرد على الحكومة الفيدرالية. توجه جيم لتحية قائد الكتيبة، الذي رحب به كأجنبي شريف، وعرض عليه أن ينقذ حياة 19 من الهنود الأسرى، شرط أن يقتل أحدهم بنفسه. أكد الضابط أنه سيعدم الجميع لو رفض جيم العرض.
طبقاً للمفهوم المبسط لفعل الخير في الفلسفة النفعية، يتوجب على جيم أن يقتل أي شخص فيهم، كي يحافظ على حياة التسعة عشر الباقين. لأن قيمة الفعل في هذا التيار الفلسفي، رهن بحجم المنافع التي ينجزها لأكبر عدد من الناس، حتى لو تضرر أحدهم أو عدد قليل منهم.
أورد ويليامز هذا المثال، كي يوضح النهايات المنطقية للتبرير النفعي. وهو تبرير يتبناه كثير من الناس، من دون تأمل أو قراءة نقدية في معانيه ومآلاته. تتجلى المعضلة التي تواجه جيم، في شعوره العميق بالمسؤولية عن موت 20 شخصاً، فيما لو تمسك بأخلاقياته الأساسية، ورفض الانخراط في هذه اللعبة القبيحة. لكنه - في المقابل - يسأل نفسه: هل من الصواب أن يقتل شخصاً لا يعرفه أو ربما لا يستحق القتل؟
هذا سؤال قد يطرح بمفرده، أو كجزء من الحدث. وقد يوجه للشخص الفاعل، أو يوجه للأسرى العشرين.
- حسناً، ما موقفك عزيزي القارئ، لو كنت في موقع جيم؟
تأمل في موقف الطرف المتضرر، باعتباره إنساناً مثلك، واسأل نفسك: ماذا لو كنت أنا في هذا الجانب، وكان على شخص آخر أن يتخذ القرار: هل يتوجب علي القبول بالموت كي يحيا بقية الأشخاص؟
دعنا نأخذ مثالاً أكثر قسوة: افترض أنك دخلت المستشفى، فوجدت 10 أشخاص في غرف العمليات ينتظرون متبرعين بأعضائهم كي يعيشوا، وإلا فسوف يموتون. أنت سليم الجسد، ولديك هذه الأعضاء جميعها: هل سترضى بأن توضع على طاولة العمليات، كي يؤخذ قلبك وكبدك وعينك ورئتك وبقية أجزاء جسمك، لتزرع في أجسام المرضى الآخرين؟
هذا السؤال يحمل نفس مبررات السؤال الأول: إذا كان بقاء العشرة أشخاص أولى من بقاء شخص واحد، فإنه يتوجب على طاقم المستشفى أن يأخذوك فوراً إلى غرفة العمليات، كما يجب عليك أن تقبلها بطيب خاطر. أما لو اعتبرت هذا الفعل غير أخلاقي، فعليك أن تتحمل وفاة العشرة أشخاص، من دون أن تشعر بالذنب.
هذه المعضلة عالجها مايكل والزر، الفيلسوف الأميركي الذي نشر في 1973 مقالاً عنوانه «الفعل السياسي: مشكلة الأيدي القذرة». وتبنى موقفاً مقارباً للموقف النفعي، لكنه قدم تصوُّراً مختلفاً.
أثارت مقالة والزر جدلاً كبيراً، وتحولت إلى نص مرجعي في أخلاقيات الفعل السياسي، لأنها عالجت تجارب فعلية يمارسها السياسيون كل يوم. ويقول والزر إنه أراد العثور على خط معقول بين من يريدون التمسك بمعايير أخلاقية صارمة، صحيحة، لكنها غير مفيدة في ميدان العمل، مقابل أولئك الذين لا يتورعون عن تبني أفعال مفزعة، يبررونها بما يترتب عليها من إنجازات ضرورية وكبيرة.
هذه الرؤية تطرح سؤالاً ضرورياً:
- هل من الأخلاقي استعمال وسائل سيئة لتحقيق غايات عظيمة، وهل من الأخلاقي أن نقتصر على الوسائل الحسنة مع علمنا بأنها لا توصلنا لأي نتيجة، أو ربما تكلفنا خسائر باهظة؟
نفهم طبعاً أن الغاية لا تبرر الوسيلة. لكن ماذا لو كانت الوسيلة القبيحة طريقاً ضرورياً لمنع الكارثة؟
ما يميز رؤية والزر عن المقاربة النفعية، هو اعتباره فعل السياسي خطأً، وإن كان الإقدام عليه ضرورياً لتفادي الكارثة. بينما ينظر النفعيون إلى هذا الفعل باعتباره صحيحاً، ولو كان - خارج هذا الإطار - خطأً وقبيحاً.
أعلم أنني قد أوصلت القارئ إلى نقطة تثير الحيرة. لكنني أفهم أيضاً أن ما سبق، قد يحفز بعضنا لإعادة التفكير في بعض قناعاته المستقرة.
التعليقات