واضحٌ أن لبنان قد دخل في مرحلة ضبابيّة وقاتمة ليس واضحاً كيف سيخرج منها وبأي أثمان وخسائر، خصوصاً مع دخول الاعتداءات الإسرائيليّة عليه شهرها الثاني، وهي كما تبدو مرشحة للاستمرار أسابيع إضافيّة بانتظار اكتمال لحظة الانتقال الأميركي بعد انتخابات رئاسيّة غير مسبوقة لناحية الاستقطاب والنتائج والتوقعات السياسيّة.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي امتنع عن التجاوب مع الضغوط الأميركيّة (غير الكافية في كل الأحوال) على مدى أكثر من عام كامل لوقف الحرب على قطاع غزة، ومن ثم على لبنان، لن يُقدّم هذه «الهدية» المجانية للرئيس الأميركي المنتهية ولايته جو بايدن، خصوصاً أنه يتمتّع بعلاقة وثيقة مع الرئيس المنتخب دونالد ترمب، ويتطلع إلى العمل معه منذ بداية ولايته الجديدة في 20 يناير (كانون الثاني) 2025.

المهم أن لبنان الآن أصبح في قلب المعركة، وبات خروجه منها ينطوي على أثمان باهظة بعضها دُفع سلفاً من خلال أعداد الشهداء الذين فاق عددهم حتى كتابة هذه السطور 3000 آلاف، ويتزايدون يومياً، والبعض الآخر قد يدفع لاحقاً خصوصاً على ضوء غياب الحسم العسكري بين الطرفين المتقاتلين: «حزب الله» يكبّد إسرائيل خسائر ملحوظة في المناطق الشماليّة مستهدفاً القواعد العسكريّة والمنشآت الحيويّة، ويمنع عودة السكان إلى مستوطناتهم، كما يعوق تقدّم القوات الإسرائيليّة في القرى الجنوبية المتاخمة للحدود.

في المقابل، تُنزل إسرائيل خسائر هائلة بلبنان ومدنه وقراه، والضاحية الجنوبيّة لعاصمته بيروت، ولا تتوانى عن استهداف المدنيين في سياق «عملياتها العسكريّة»، كما أنها اغتالت الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله وخليفته السيد هاشم صفي الدين، وعدداً كبيراً من قيادات الصف الأول والثاني والثالث، ناهيك عن تفجيرات أجهزة «البيجر» والاتصالات اللاسلكيّة.

ويختلف اللبنانيون فيما بينهم، كما دائماً على كل حال، في تصنيف وتوصيف «الفوز والهزيمة»، فيرى مناصرو الحزب أنهم يُلحقون الهزائم بإسرائيل، ويرى المناوئون له أن لبنان برمته يعيش هزيمة وانكساراً كبيراً، كما أن قسماً كبيراً من هؤلاء يراهنون على «سقوط» «حزب الله» تدريجيّاً، وبعضهم يلتف في مواقفه السياسيّة تحضيراً لمرحلة «ما بعد الحزب».

الحقيقة أن التعويل على السقوط الكامل والنهائي للحزب قد يعتريه شيء من التبسيط للأمور، لا سّيما أنه لا مفر من الاعتراف بأن للحزب امتداداته الشعبيّة والاجتماعيّة والتمثيليّة حتى لو تعرّض لضربات قاسية وكبيرة، ولو كانت قدراته التمويليّة قد تراجعت مرحلياً، ولو باتت مؤسساته بغالبيتها بحكم المتعثرة.

مهما يكن من أمر، فمن الواضح أن لبنان يتجه نحو مساراتٍ جديدة، ولن تكون الحقبة المقبلة يسيرة من ناحية إدارة العمليّة السياسيّة، ومن غير المتوقع أن يكون التعامل مع «حزب الله»، مهزوماً كان أم منتصراً، أمراً سهلاً لا سيّما على ضوء الانقسامات اللبنانيّة الداخليّة الحادة التي تفاقمت في خلال مرحلة «حرب الإسناد»، ومن ثم تصاعدت بشكل كبير، وغالباً ما تعكسها وسائل التواصل الاجتماعي التي تتحوّل إلى حلبات عراك يخلو في كثير من الأحيان من الحد الأدنى من أخلاقيّات، ويفجّر ما في الأعماق من أحقاد دفينة عند شرائح واسعة من اللبنانيين تجاه بعضهم البعض.

تبقى الأولوية الراهنة وقف إطلاق النار، ووقف هذه الاعتداءات اليوميّة التي تطول كثيراً من المناطق اللبنانية، وتؤدي إلى سقوط مدنيين أبرياء، كما لا يمكن إشاحة النظر عن ضرورة انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة يقود البلاد وسط هذه المنعطفات الصعبة، ويعيد لبنان إلى حاضنته العربيّة.