في لبنان لا يزال هناك من يعتقد أنّه "هزم إسرائيل". فليكن ذلك إرضاء لعواطفه، ولكن بالتأكيد لم تُربَح الحرب، فلم يستمرّ ربط جنوب لبنان بغزة، الشعار الذي رفع بقوة في البداية. ولم تحرر أيّ أراض فلسطينية تمّ الحديث عنها تكراراً، وبالتأكيد لم يصلِّ أحد في القدس! هذا الانتصار نابع أصلاً من عدم تدريب الجمهور العربي على التفكير العقلاني، لذلك يُدخل القادة جمهورهم في "حرب المصطلحات". قيل أيضاً إنّ الحزب لم يكن يريد الحرب، بل أراد المساندة؟! من الصعب للعاقل فهم هذا التبرير؛ هل يعني أن نرسل إليكم صواريخ محدودة الفعالية، وترسلوا إلينا مثلها، وكفى الله الناس شرّ القتال؟ تقليب المواجع ليس من شيم الناضجين، وليس الحديث اليوم عن لوم الآخرين؛ فلقد مات من مات وهُدم ما هُدم، وهُجّر من هُجّر، كما أن الحقيقة الأخرى أن إسرائيل خرجت منهكة، فالحروب لها أثمان، حتى لو انتصر طرف فيها. وسوف نشهد تغييرات في الساحة الإسرائيلية نتيجة حربي غزة ولبنان، أمّا الخسارة العربية فهي واضحة لا تحتاج إلى بيان. مستقبل لبنان هو أن يصبح "حزب الله" مكوّناً سياسياً من ضمن المكوّنات الأخرى، وليس مكوّناً عسكرياً يسود على الجميع بالقوة، فقد تتبيّن فداحة الصراع مع إسرائيل في لبنان، ويصبح السلاح حصراً، كمثل دول العالم، بيد الجيش الوطني. ذاك هو العنوان العام للمرحلة اللبنانية المقبلة، حتى وإن قرر البعض الإنكار في حومة اللوعة. "حزب الله" هو حزب طائفة، صغيرة أو كبيرة. وبسبب عوامل كثيرة سمّى نفسه أنه الممثل الوحيد لهذه الطائفة. المسيحيون اللبنانيون منقسمون إلى أحزاب في ما بينهم، والسنّة كذلك، بل حتى الدروز. لقد مثّل "حزب الله" الطائفة بالإغواء أو الإغراء أو التخويف، وتبين أنّ كلّ الصراخ السياسي، وإن كان شبه موسيقى لدى البعض، لا أكثر من صراخ. أيّ عاقل يعرف أنّ قوة لبنان بالعودة إلى الدولة الدستورية التي تكون مرجعيتها القوانين المحلية والدولية، ووضع حصان الاقتصاد قبل عربة السياسة لا العكس. لقد جُرّب العكس وشاهدنا جميعاً النتيجة! من جانب آخر، هناك عنوان اسمه "إعادة الإعمار". فبعد حرب 2006 هرع الجميع، وخاصة الدول الخليجية للمساهمة في الإعمار، على أساس أن الحزب قال على لسان أمينه العام السابق حسن نصر الله "لو كنت أعرف لما بدأت"!! وبعد زمن انتقلت الأمور إلى "النصر الإلهي" ونسيت المقولة الأولى. اليوم اختلف الأمر، فدول الخليج ليست مؤسسات خيرية، تقوم بما خربته الحروب العشوائية. المساعدة مطلوبة، ولكن عليها أن تشترط قيام الدولة والمؤسسات في لبنان، قبل الإعمار، فدون دولة قادرة، لا مساعدات آتية. ما قاله بنيامين نتنياهو في خطاب قبول الاتفاق الأخير، أنه بنى قراراه على ثلاثة أسباب: الأول الاستعداد لمواجهة إيران، والثاني استراحة الجنود المتعبين، والثالث وهو الأهم "نقص في توفر السلاح". ما يمكن أن يقرأ من النقطة الثالثة، أن الولايات المتحدة قد استخدمت "تقليل توفير مد السلاح لإسرائيل" من أجل إجبارها على الذهاب إلى وقف إطلاق النار! وهو يعني أنّ الإدارتَين المغادرة والآتية قد تمّ التوافق بينهما لاتخاذ هذه السياسة، التي رضخت لها إسرائيل، ويعني أن أميركا مهتمة بالسلام في لبنان، على عكس شعار الحزب "الموت لأميركا". الفرصة المتاحة اليوم لعودة لبنان إلى صحته قد لا تتكرر. هي طريق ضيّق يجب العمل على توسيعه. الأمر الآن منوط بالسياسيين اللبنانيين. بري، جعجع، الجميل، باسيل، السنيورة، جنبلاط وغيرهم من الزعماء، عليهم أن يحسموا أمورهم لقيام لبنان جديد، والعمل على انتخاب رئيس للجمهورية، بعيداً من التحزّب إلّا إلى لبنان. رئيس مؤتمن ومقبول دولياً وعربياً، وحكومة جديدة كاملة الصلاحيات، تبسط سلطتها على كل لبنان، مع قوة ردعية ممثلة بالجيش اللبناني ودعمه، تلك العناوين واجب الأخذ بها وبتوقيت مناسب لا بطء فيه، وهي لكلّ عاقل المخرج الوحيد لتعويم لبنان وإعادة صحته الاقتصادية والسياسية. الخيار الآخر إمّا عودة الحرب وبشكل لا يبقي حجراً على حجر، وإعادة لبنان إلى قرن سابق على الأقل، أو ربما حرب أهلية تقود إلى النتيجة نفسها. مراجعة "حزب الله" لاستراتيجيته أيضاً لها أهمية، فقد عاث فساداً في سوريا واليمن والعراق، ومدّ يده إلى أكثر من دولة، تدريباً وتسليحاً، ذلك لم يعد مقبولاً، وعلى رجاله العودة إلى التفكير العقلاني، وتخطي الشعوذة السياسية والانسياق وراء الأوهام، وحرب المصطلحات. لقد اعترفنا أنكم "هزمتم إسرائيل" شكراً لكم، ولكنكم لم تربحوا الحرب وهو الأهم!
- آخر تحديث :
التعليقات