تعتمد لوحة البازل على صورة ثابتة نسعى إلى تحقيقها بترتيب قطع متناثرة. اللوحة معدَّة سابقاً، الخطوط مصفوفة سابقاً، والأحجام قبل اللعبة وبعدها واحدة. وهذا نموذج لا يصلح لإدارة الحياة، بسبب عنصر واحد أساسي للفرد والمجتمع والدولة والكون، وهو الإبداع. هو مالئ الفجوة في الزمن المتمدد، وسبب التوسع في الاقتصاد، وسبب المكسب في السياسة.
إن استطعتَ أن تنجز بما لديك أفضل مما ينجز غيرك، نقول إنك أدرتَ الموارد إدارة جيدة. في لعبة البازل الخاصة، التي ليست فيها صورة مُعَدّة مسبقاً، استطعت أن تصنع الأفضل. إليكم مثالاً أقرب نعرفه جميعاً. كل ما نراه من مبانٍ مصنوع من مواد خام متوفرة لمن أراد، وكل ما نسمعه من موسيقى مصنوع من نغمات أساسية ليست محجوبة عن أحد. من الحجر والإسمنت والزجاج ظهرت مبانٍ رائعة، ومنها أيضاً ظهرت مبانٍ بشعة.
المنتج البديع يعتمد على تلاقي عاملَين: الحساب الرقمي المنضبط الذي يحفظ المبنى قائماً، والموسيقى بعيدة عن النشاز، مع الخيال الذي يمنح التميّز. بعبارة أخرى، التقاء النظام مع الإبداع. الإدارة أيضاً تنتمي إلى نفس هذا الصنف؛ أكانت إدارة فنية لفريق كروي، أو إدارة منظومة سياسية.
اسم ويليام إدوارد ديمنغ ليس واسع الانتشار، لكنه تجسيد حيّ، وحرفي أحياناً، لما نتحدث عنه. رجل بدأ حياته فيزيائياً وخبير إحصاء يتعامل مع أرقام صارمة، ومؤلفاً موسيقياً، يخلط الانضباط الإيقاعي بالإبداع، ثم توّج هذه الكفاءة العقلية بنجاح إداري مشهود وضعه في مكانة «المعلم» الإداري. لم يكتسب هذا بمحاضرات نظرية أو موهبة خطابة عامة، رغم أهمية هذه القدرات، بل اكتسبه من حياة في النشاط الذي برع فيه.
حين بدأ ديمنغ مسيرته الإدارية، كانت الفكرة السائدة موروثة من الثورة الصناعية تركِّز على الأرباح المباشرة، وعلى الهرمية المطلقة في كافة نواحي السلطة الإدارية. والخطاب في هذا الصدد يشبه ما تقرأه حالياً على جدران المدارس، وخطابات التحفيز الخطابي. إنْ عملت كثيراً فستحقق النجاح. لكن ديمنغ استطاع برؤيته الثاقبة أن يرى مواطن الخلل في هذا التفكير، وأن يجلس على أكتاف مبدعين سبقوه، وأن يركز على السيستم، على بيئة نظام العمل التي تهيئ مسارات الإبداع والجودة. أفكار كانت ثورية في وقتها، ومؤثرة للغاية، إلى درجة أن نقاطه الأربع عشرة الحاكمة للإدارة صارت بالنسبة إلى عصرنا الحالي معرفة راسخة. هذه علامة على التأثير؛ أنْ تتحوَّل رؤيتك من ثورية في حينها، إلى كلاسيكية للأجيال التالية.
ديمنغ حقَّق الاختراق الحقيقي في حياته خارج حدود وطنه، حين دعته اليابان بعد الحرب العالمية الثانية لكي يقود جيلاً جديداً من إدارييها بأفكاره حول ضبط الجودة والتحليل الإحصائي للأداء. وقد أحدث الأثر العميق المنتظَر منه. ركز على تطوير آلية العمل، بدلاً من تحميل الأفراد المسؤولية، وكان عاملاً في التحول الإعجازي لليابان من اقتصاد محطّم إلى نموذج عالمي. إحدى أرفع الجوائز في اليابان في مجال الكفاءة الإدارية مسماة على اسمه. «تويوتا» صارت مرادفاً للجودة والابتكار، بسبب أسلوبه. الفكرة عند ديمنغ بسيطة للغاية: لا بد أن يحظى المنتج برضا الجمهور، وأن الطريق إلى ذلك عملية إنتاج يمكن قياسها وتحسينها من خلال مؤشرات أداء. في النهاية، إن تحسَّنَتْ جودة المنتج فلا بد أن تقلَّ التكلفة في مقابل الأرباح. والعكس صحيح.
الغريب أن ديمنغ لم يحظ بنفس المكانة في وطنه حتى الثمانينات، حين واجهت الشركات الأميركية منافسة حامية من الشركات اليابانية، فالتفتت إلى أثر ديمنغ على هذا النجاح.
وإحدى أفكار ديمنغ الأساسية تتصل بما بدأ المقال به؛ أن الإدارة ليست علماً جامداً، إنما خليط من علم وفن، أرقام وإبداع، مغزولين في نسيج واحد.
قصة ديمنغ تجعلني أتشكك في شخص يقود بلا ثقافة. ولا أقصد بالثقافة قراءة الكتب، وإنما امتلاك فلسفة أصيلة للحياة، ونظرة مركَّبة لأنشطتنا فيها. كما تجعلني أتعجب من مقولات أشاعها كُتَّاب ومبدعون اعتادوا التحقير من العمل الإداري بوصفه روتيناً خالصاً، وتكراراً لا ينتهي. وهي صورة مستقاة غالباً من نظم الإدارة المركزية، التي تتحول فيها طبقات متعددة من القيادات الإدارية إلى مجرد كتبة، غير مشغولين بتنافسية ولا ربحية ولا مؤشرات جودة.
التعليقات