هناك حكمةٌ يونانية تقوم في جوهرها على البساطة والصدق خلاصتها: «إنك لن تقطع النهر نفسه مرتين» في إشارة إلى خاصية التجدّد التي هي من طبيعة الأنهار، وأنّ هذا التجدّد هو سرّ نقائها وصلاحيتها للطهارة والحياة، وأنّ الماء الراكد في الجهة المقابلة هو موطن الطحالب والجراثيم التي سيتحول معها إلى مكرهة صحية، وكذلك هو شأن الحياة حين نتأملها بعين البصيرة فهي في جميع تجليّاتها: من الذرة إلى المجرّة يقوم جوهر وجودها على الحركة التي تضمن لها البقاء في مدار الحياة، وليكون ذلك عبرة للإنسان الذي قد يغفل أحياناً عن فهم طبيعة الحياة، ويتخذ لنفسه مساراً خاطئاً في هذه الحياة يدفع ثمنه باهظاً من سعادته وصفاء باله وطيب حياته.

وتأكيداً على القيمة الحقيقية لفكرة التغيير التي تعني خروج الإنسان من مألوف عاداته، وانخراطه في عادات عمليّة جديدة تضمن له إطلاق طاقاته، وتفعيل معنى وجوده في هذه الحياة، نشر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، تغريدة ثمينة على حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي من خلال وسم «علّمتني الحياة» وهو الوسم الذي أصبح نافذة توجيهية يخاطب من خلاله أبناء شعبه، وينير قلوبهم ويشحذ إراداتهم ويستنهض عزائمهم من خلال تجربته الثريّة في هذه الحياة والتي خاضها منذ أكثر من خمسين عاماً أنجز عبر مسيرتها ما تعجز عنه الدول الكبرى، حيث تكلّم في هذه التغريدة عن قيمة التغيير وفلسفته في هذه الحياة، وأنّ من لم يبادر إلى تغيير مسارات حياته ربما يكون الندم حليفه والخيبة هي ثمرة كسله وتواكله، مستلهماً قول الله تعالى: (إنّ الله لا يُغيّر ما بقوم حتى يُغيّروا ما بأنفسهم) لتظلّ كلماته سراجاً يُضيء طريق الساعين إلى طرق العيش الكريم، وتحقيق أقصى أمنيّات الإنسان القوي النشيط، فالحياة الخاملة لا تستحق اسم الحياة، ولا وجود لها في رؤية سموه ومنهج عمله في بناء الوطن والإنسان.

«التغيير مُكلف... التغيير متعب، التغيير يتطلّب الخروج من منطقة الراحة، يتطلب أن تنهض كل يوم السادسة صباحاً»، في هذا المقطع المكثف من كلام صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد يؤكّد على أنّ التغيير ليس أمنيّة من الأماني الفارغة التي تهجس بها النفس كحُلم لذيذ يمكن تحقيقه بمجرد الأمنيات، بل يكشف عن الحقيقة كما هي مهما كانت مُرّة وشاقة التكاليف، وهذا الوضوح هو خصائص القائد الفذّ الذي لا يمشي خطوة واحدة إلا في طريق واضح المعالم محسوب الخطوات، قد احتاط السالك فيه لكلّ أصناف التحدّيات لذلك كان التغيير ذا كلفة محسوبة يجب على الإنسان أن ينتبه لها، فحين يفكّر الإنسان في تغيير سلوكه على المستوى الشخصي نحو الأفضل فهذا يعني في أول ما يعني الخروج من المألوفات ومغادرة منطقة الراحة التي انزلق إليها أكثر الناس وعلقوا بها ولم يعودوا قادرين على مغادرتها، وهو شيء أصبح ظاهرة ملحوظة أعني ورطة الناس في منطقة الراحة وتشبّث الناس بها على الرغم من الخسائر الفادحة المترتبة على البقاء في هذه المنطقة الغامضة التي لا تعود على الإنسان إلا بأسوأ النتائج، مع أنّ الحكماء يقولون: إنّ العمل لا يقتل الإنسان مهما كان شاقاً، لكنّ الكسل والفراغ يقتلان أنبل ما في الإنسان، وهو الشيء الّذي يتصدّى له صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد بكلّ عزيمةٍ وحزم، فهو لا يعتدّ بالكُسالى، ولا يرى فيهم إلا عبئاً على الحياة، فالحياة عنده هي النهوض المبكّر والاشتباك المباشر مع معركة العيش والبناء، لأنّ الإنسان خلق لإعمار هذا الكون بالجهد وبذل الطاقة المكافئة لنعمة الخلق والتكليف.

«التغيير يتطلّب متابعة وصبراً وتضحية ومواصلة الليل بالنهار» وإذا كان المقطع الأوّل من كلام صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد قد ألقى الضوء على حقيقة التغيير فإنّه في هذا المقطع من التغريدة يلقي الضوء على متطلبات التغيير وأنّها تقتضي المتابعة القوية الذكيّة التي يشعر معها فريق العمل أنّ هناك من يتابع عملهم ويتفحّص منجزهم، وأنّ الصبر على متاعب التغيير هو مفتاح الظفر والفوز، فكلّ شيء في هذه الحياة إذا تخلّفت عنه فضيلة الصبر أصبح عبئاً على النّفس ولم تنجزه إلا على تكلّف وعدم إخلاص محرومة من إحساس الشغف والحبّ للعمل الذي يستخرج من الإنسان أفضل طاقاته وأروع إنجازاته، وهذا يعني أن تكون وتيرة العمل متواصلة لا تقف مع قدوم الليل بل تبقى سائرة نحو أهدافها في سبيل تقديم أفضل ما في الإنسان من بذل وعطاء.

«التغيير يتطلّب أن تدفع الثمن، وإذا لم تفعل ستدفع ثمن بقاء شعبك في مكانه، ستدفع ثمن التخلّف أضعافاً مضاعفة» ثم يختتم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم هذه التغريدة الرائعة بما يشبه التحذير من مغبة التفريط بالتغيير، فالعزوف عن تغيير الحياة، والبقاء في منطقة الراحة والاستسلام لمشاعر الكسل هو موقف سيكون له ثمن فادح، وسيتجلّى ذلك في بقاء الشعب والوطن في ذيل الأمم مع الشعوب الكسولة المتخلّفة في الوقت الذي تسعى فيه الأمم النشيطة إلى تحقيق أعظم المكاسب من خلال جهدها وبعرق جبينها، فإذا لم يتنبه الإنسان إلى حجم الخسارة المنتظرة فسوف يدفع ثمن العجز عن التغيير أضعافاً مضاعفة وربّما في الوقت غير المناسب مما يزيد من كلفة الخسائر بسبب عدم فهم فلسفة التغيير وقيمة الاندفاع بكل جرأة وشجاعة نحو مسارات الحياة القوية التي تستخرج من الإنسان أفضل ما فيه من طاقة العمل وروعة الإنجاز.