ضياء رشوان
اعتاد أبناء الشعوب العربية في دولها الاثنتين والعشرين المشكّلة لجامعة الدول العربية الحديث عن انتمائهم المشترك لكيان تاريخي كبير وعريق، تنوعت أسماؤه ما بين «الوطن العربي» و«الأمة العربية» و«العالم العربي».
وتنوعت القسمات المشتركة بين شعوب هذا الكيان، وبقيت وحدة الجغرافيا واللغة العربية والسمات الثقافية – الاجتماعية هي الأكثر رسوخاً واشتراكاً بين هذه الشعوب، بما يميز ذلك الكيان عن غيره من الكيانات الكبرى سواء في المحيط الإقليمي المجاور له أو في بقية مناطق العالم.
وقد تعددت تفاعلات شعوب هذا الكيان العربي منذ بدايات القرن التاسع عشر مع بعضها البعض، وخصوصاً في الفترات التي سبقت معاهدة سايكس – بيكو عام 1916، والتي قسمت وتقاسمت بموجبها بريطانيا وفرنسا ودول أوروبية أخرى منطقة المشرق العربي.
وكان الانتقال البشري عبر السفر فيما بين مناطق ودول الكيان العربي هو الوسيلة الأبرز للاختلاط والاندماج بين شعوبها، وكذلك التعرف على بعض من خصوصية كل منها.
ولعبت العواصم والحواضر الكبرى في مختلف مناطق ودول الكيان العربي دوراً رئيسياً، إن لم يكن وحيداً، في خلق هذه الروابط، وتعظيم المعرفة المتبادلة فيما بين شعوبه ودوله.
ومع ظهور ونمو الصحافة المطبوعة في منتصف القرن التاسع عشر في بعض من تلك العواصم والحواضر، ثم بعدها بعقود عدة ظهرت صناعة السينما في مصر، وبعدها بعقود أخرى تم تأسيس عديد من الإذاعات ببعض منها، ثم بدء الإرسال التلفزيوني منذ مفتتح ستينيات القرن الماضي، أسهمت كل وسائل الاتصال هذه في مزيد من تعريف شعوب دول ومناطق الكيان العربي المشترك ببعضهم البعض، سواء بلهجاتهم أو بطريقة لباسهم ومطابخهم أو أدبهم أو بعض من مدنهم ومناطقهم، أو غير هذا.
ومع الثورات التكنولوجية المتتابعة بسرعة منذ سبعينيات القرن الماضي وصولاً إلى ذروتها الحالية المتمثلة في كل وسائل الاتصال والتواصل الإلكترونية فائقة السرعة لا محدودة المحتوى بدا واضحاً في مجمل بلدان ومناطق الكيان العربي أنها لم تضف كثيراً إلى المعرفة المتبادلة المتراكمة منذ عقود طويلة بين شعوبها، عبر وسائل الاتصال القديمة والتقليدية، فلم تتضمن مئات الملايين، وربما المليارات، من التغريدات والمدونات والتعليقات والأفلام ومقاطع الفيديو، إضافات كبيرة لهذه المعرفة المتبادلة.
حيث اقتصرت على المجالات والمحاور، التي دأبت تلك الوسائل على التطرق إليها، بالتركيز على التسلية، وتداول أكبر قدر ممكن من «الأخبار» مجهولة المصادر، والتي ترقى أغلبيتها إلى مستوى الإشاعات.
ووسط هذه الحالة من المعرفة المتبادلة بين شعوب دول ومناطق الكيان العربي أتت مفارقة مأساوية لكي تفتح باباً مختلفاً لها، فقد أضافت التطورات الدموية التي شهدتها المنطقة منذ هجوم «طوفان الأقصى» على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023 رصيداً كبيراً للغاية من المعرفة المتبادلة بين أبناء الكيان العربي بكل المناطق التي جرى – ويجري – فيها الصراعات الدموية، فعبر التغطيات الإعلامية، التقليدية ووسائل التواصل.
على مدار الساعة للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، تراكمت أسماء المدن والمناطق والقرى والمخيمات به في وعي وذاكرة كل متابع عربي، متقاطعة مع مواقعها الجغرافية على خريطة القطاع الصغير المنكوب، التي أضحت معروفة ومألوفة لأعداد هائلة من أبناء شعوب ودول الكيان العربي الكبير.
ولم يختلف الأمر كثيراً مع الهجوم الإسرائيلي الدموي الواسع على لبنان ومختلف مناطقه، التي أصبحت بدورها تتتابع على مدار الساعة أمام أعين وعبر آذان كل المتابعين العرب لوسائل الإعلام التقليدية والجديدة، لتخلق معرفة غير مسبوقة من قبل بها.
وتكرر الأمر في اليمن والعراق وأجزاء من سوريا، وبالطبع طوال الوقت في الضفة الغربية الفلسطينية، مع توالي الهجمات الإسرائيلية بما أوقعته في كل من مناطقها من ضحايا وتدمير واسع.
وأتت أخيراً الإطاحة العسكرية هائلة السرعة بالنظام السوري، وما تلاها حتى اليوم من أحداث، لكي تضيف إلى المعرفة الشعبية العربية رصيداً غير مسبوق من أسماء المدن والقرى والمناطق والمخيمات، وكل ما يرتبط بها من مواقع وإحداثيات جغرافية واجتماعية.
المفارقة هي أن المآسي القاسية الأخيرة، التي أصابت بعضاً من الشعوب والدول العربية، كانت هي بوابة المزيد من المعرفة لأبناء دول وشعوب أخرى بالكيان العربي، بالتفاصيل البشرية والاجتماعية والجغرافية لها، وحفرها في وعيهم وذاكرتهم، فمن قلب المآسي ولدت المعرفة.
التعليقات