قلت قبل أسبوعين إن «العقل العملي» يهتم في المقام الأول بتمهيد العلاقة بين الفرد ومحيطه الاجتماعي. وضربت مثالاً باختيار نوع الملابس واللغة وطريقة الكلام، وبقية العادات التي تجعل الفرد شبيهاً بالآخرين في محيطه، وبهذا المعنى فالعقل لا يُبدع شيئاً، بل يعيد إنتاج الثقافة الموروثة، وما يستند إليها من أعراف وعادات وطرائق عيش.

لا بأس هنا باستدراك أظنه ضرورياً كي لا يظن قارئ أن عقلاً كهذا لا نفع فيه: فالجانب الأعظم من حياة الإنسان، مؤلف من تفاعلات مادية أو فكرية مع الناس والطبيعة. وهو في كلتا الحالتين، يحتاج إلى تقبل الآخرين لشخصه وتصرفاته. وفي هذه العملية يلعب العقل العملي دوراً مؤثراً، فهو يُصمم الطرق المناسبة للتعامل مع الغير على نحو يُحقق الهدف المنشود. إن افتقار الإنسان للعقل العملي، يماثل تماماً افتقار المسافر لوسيلة السفر التي تحمله إلى مقصده. بهذا المعنى، فإن العقل العملي هو أداة العيش، وهو ضرورة للعيش، ولولاه لربما بات الإنسان غريباً منفرداً، أو دائم الهروب مثل حيوان متوحش.

أما وقد وصلنا إلى هذه النقطة، فقد حان الوقت لبيان أن هذا المعنى على وجه التحديد، هو الذي يوجب على الإنسان أن يكون متواضعاً، إذا خالفه الآخرون في فكرة أو رأي أو مذهب. الأفكار التي نحملها أنا وأنت وغيرنا من الناس، تنتمي في الأعم الأغلب إلى توافقات اجتماعية، أخذنا بها لأننا نعيش في وسط جماعة، فلم نبتكرها بأنفسنا، ولا وضعناها على طاولة المقارنة مع الأنماط البديلة كي نختار ما هو أفضل. بل حتى لو اخترنا ما نظنه أفضل، فما الميزان الذي نرجع إليه في تحديد القيم التي نلقيها على هذا الجانب أو ذاك، قبل أن نقارن بينهما... أليس هو ذات الميزان الذي تشكّل في ذهني وذهنك تحت تأثير المحيط الاجتماعي؟

منذ نعومة أظفاره، يتشرّب الفرد الثقافة السائدة والأعراف والعادات المستقرة، والأخلاقيات المعيارية التي تتبناها الجماعة، فيتشكل على ضوئها عقله وذاكرته، أي الطريقة التي يفكر بها ويعيش، والمعايير التي يرجع إليها في الحكم على الأشياء. وحتى حين ينتقل الفرد إلى جماعة جديدة، كأن يتحول من دين إلى آخر، أو من مذهب إلى آخر، أو يهاجر من بلد إلى آخر، فإنه يعيد تشكيل ذهنه وذاكرته، أي منظومته العقلية، على ضوء الثقافة السائدة في بيئته الاجتماعية الجديدة، أي أنه -بعبارة أخرى- ينتقل من تقليد إلى تقليد. هذه حالي وحالك وحال الأغلبية الساحقة من سكان هذا الكوكب.

أقول الأغلبية الساحقة، وليس الجميع؛ لأن هذا الكوكب يحوي أيضاً أقلية صغيرة من السكان، يُمثلون «العقل المنشئ» حسب تعبير أندريه لالاند، أو العقل النظري حسب التعريف الموروث من فلاسفة اليونان. واضح من اسمه أنه عقل لا يلتزم بالتوافقات الاجتماعية، بل ربما كان شغله هو نقض الأساس الفلسفي/ المنطقي الذي تقوم عليه تلك التوافقات، وما يتعلق بها من معايير وقواعد.

لا يتسع المجال لتفصيل القول عن العقل في هذا الدور، لكن تهمني الإشارة إلى فارق مهم بين تعريف لالاند وتعريفات مَن سبقه. فهؤلاء قرروا أن العقل «نظري»، بمعنى أنه منشغل بمعادلات ذهنية، لا يترتب عليها أي عمل، ولا ترتبط بقضايا الواقع ربطاً مباشراً. أما لالاند فقال إنه «منشئ»، بمعنى أنه يخلق الأفكار الجديدة من عدم، أو أنه ينطلق من فكرة قائمة، فيتجاوزها إلى مسافات وراءها لم تكن موجودة قبلئذ، أي أنه يخلق المسافات والمساحات، ويملؤها بالسكان، أي الأفكار.

على أي حال، فإن تلك الأفكار النظرية، هي التي تُشكل الأساس للتطبيقات وعلوم الواقع، مثل الرياضيات التي على أرضها بني الكمبيوتر وتطبيقاته وحسابات السفر والإحصاء وأمثالها. وأظن أن الفكرة قد اتضحت بما يغني عن مزيد البيان.