يذهب العراق إلى انتخابات 11 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 وسط نقاشٍ عام يتجاوز «مَن يفوز» إلى «كيف تُدار العملية السياسية بعد الفرز»، فهذا الاستحقاق لا يُختبر فقط في يوم الاقتراع، بل أيضاً في ما يليه من مفاوضات تشكيل الحكومة، وفي قدرة المجلس المقبل على استعادة المعنى الأصلي لدور البرلمان: التشريع، والرقابة، وتقييم الأداء. فالإطار القانوني الحالي - بعد «تعديلات 2023» على قانون الانتخابات - أعاد صيغة التمثيل النسبي مع القوائم المفتوحة وتعدد الدوائر، وقد رأى فيه البعض محاولةً لتحقيق توازن بين العدالة التمثيلية والاستقرار، فيما تحفظت قوى سياسية ومدنية على تفاصيل متعلقة بهندسة الدوائر وعتبات التمثيل... في كل الأحوال، لا يكفي «النص» من دون إنفاذٍ رشيد؛ فالمعيار الحاسم يبقى في حياد الدولة وأجهزتها، واستقلالية المفوضية والقضاء الانتخابي، وشفافية تمويل الحملات.

في الأسابيع الماضية، برزت دعواتٌ متكررة لضبط المال السياسي وتغليظ العقوبات على أي ممارسات غير مشروعة تمس حرية الناخب، وتُسجَّل في المقابل تأكيدات رسمية متواترة على صرامة الإجراءات وفتح قنواتٍ للشكاوى والطعون، والمعنى العملي لهذا الجدل أن «نظافة المسار» باتت شرطاً لازماً لاستعادة الثقة، وأن الإعلان السريع والشفاف لنتائج التحقيقات - حيثما وُجدت - يمثّل عنصر طمأنة لا يقل أهمية عن انتظام الجوانب الفنية للاقتراع.

وعلى خطٍ موازٍ، عاد ملفّ «الحوافز» داخل المؤسسة التشريعية إلى واجهة النقاش العام: رواتب النواب ومخصّصاتهم وامتيازاتهم... هذا الملف يُقاس عادةً بمعيارين؛ أولهما الالتزامات الأمنية واللوجيستية المرتبطة بموقع النائب، وثانيهما التوقعات المجتمعية في بلدٍ يواجه ضغوطاً معيشية وخدمية. حين تبدو الفجوة كبيرة بين المعيارين، ينشأ انطباعٌ بأن المنصب النيابي يمنح «ميزةً مالية» تغلب على صفة الخدمة العامة، وهو ما يُضعف «الدوافع البرنامجية» لدى بعض المرشحين، ويَحرِف التنافس نحو اعتباراتٍ لا علاقة لها بجوهر العملية التشريعية والرقابية. إن معالجة هذا الخلل لا تتطلب سجالاً سياسياً بقدر ما تحتاج إلى قواعد واضحة للإفصاح المالي، ونشرٍ دوريّ للإنفاق التشغيلي، وربط أي امتياز بضوابط مهنية محددة قابلة للتدقيق.

أما على مستوى الخريطة السياسية، فالتقديرات الراجحة لا تتوقع انقلاباً جذرياً في موازين القوى؛ مما يعني أن «يوم ما بعد النتائج» سيحمل وزناً مماثلاً ليوم الاقتراع. والخيار المطروح أمام الكتل يكاد يتلخّص في نهجين: الأول تشكيل حكومةٍ ببرنامجٍ محدد بأولويات قابلة للقياس (اقتصاد، وخدمات، وضبط السلاح خارج الدولة) وسقفٍ زمنيٍ واضح للمائة يوم الأولى. والثاني العودة إلى صيغ «الحكومة الجامعة» التي تُميِّع المسؤولية وتؤجل الحسم الإصلاحي. فالتجربة العراقية تشير إلى أن النجاح في النهج الأول يرتبط بوجود معارضة برلمانية واضحة الصفة، لا تقل شرعيةً عن الائتلاف الحاكم، وتعمل بأدوات الرقابة والتشريع بدل الازدواج بين السلطة والمعارضة في آن معاً.

في المشهد الكردي، طُرحت مقارباتٌ تدعو إلى المشاركة السياسية بوصفها أداة تصحيحٍ من الداخل لا مجرّد إجراءٍ روتيني، وقد تركزت الرسائل على مسارين متوازيين: مراجعة بعض جوانب القانون الانتخابي وتعزيز استقلالية المفوضية، ثم وضع إطارٍ عملي لتطبيق الدستور في الملفات الخلافية بين بغداد وأربيل - من النفط والموازنة إلى الرواتب - بما يعيد ضبط العلاقة الاتحادية على أسسٍ واضحة ومستقرة. وأهمية هذه المقاربة أنها تربط التمثيل البرلماني بمهمة إصلاحية قابلة للمتابعة، وتحوّل الاستحقاق الانتخابي من منافسة مقاعد إلى فرصة لتعديل قواعد العمل العام.

يبقى السؤال: ما الذي يحتاجه المجلس المقبل حتى لا يُعيد إنتاج المأزق ذاته؟ يمكن الإشارة إلى 4 أولويات واقعية؛ أولاً: منظومة شفافة في تمويل الحملات، مع سقوف إنفاق مُلزمة وآليات تدقيق معلنة. ثانياً: تقوية القضاء الانتخابي بحيث يكون البتّ في الطعون سريعاً ومُسبَّباً ومتاحاً للجمهور. ثالثاً: حوكمةٌ مالية داخل البرلمان نفسه، تتضمن نشر تقارير دورية عن الرواتب والمخصصات والإنفاق التشغيلي، وربط الامتيازات باحتياجات أمنية وفنية مبرّرة. رابعاً: تفاهمٌ سياسي على تشكيل «حكومة برنامج» و«معارضةٍ برلمانيةٍ مؤسسية»، بما يحدّد المسؤوليات ويتيح محاسبة قابلة للقياس.

خلاصة الأمر أن اختبار 11 نوفمبر الحالي لا يتعلق فقط بنسبة المشاركة أو ترتيب الكتل، بل بقدرة العملية السياسية على إنتاج «عقدٍ جديد» بين الناخبين وممثليهم؛ عقدٍ ينقل مركز الثقل من «الوعود العامة» إلى «التزاماتٍ محددة»، ومن «الامتيازات المفتوحة» إلى «الإفصاح والانضباط المالي»، ومن «منطق التسويات الدائمة» إلى «منطق البرامج القابلة للتقييم»... عندها فقط يمكن للبرلمان أن يستعيد صورته بوصفه مؤسسةً تشريعيةً ورقابيةً فاعلة، وأن يتحوّل الاستحقاق الانتخابي من «محطةٍ عابرة» إلى «خطوةٍ عملية على طريق الإصلاح».