علي عبيد الهاملي
لم يَعُدْ مستغرَباً أن تلجأ جماعة الإخوان إلى أسلوب التهديد كلما ضاقت بها مساحات المناورة، فهذه الجماعة التي خسرت شرعيتها في الشارع العربي، وفقدت قدرتها على الحركة السياسية في معظم العواصم، عادت اليوم لتستخدم آخر ما تبقى لها من أوراق، ورقة التخويف. ففي الأيام الماضية، خرجت الجماعة برسالة موجهة إلى الولايات المتحدة، تحذر فيها واشنطن من أن موقفها الجديد من الإخوان قد يشكل تهديداً للأمن القومي الأمريكي والاستقرار الإقليمي. رسالة، وإن بدت في ظاهرها رأياً سياسياً، إلا أنها في حقيقتها تهديد لا يصدر إلا عن تنظيم مأزوم يدرك أنه يفقد النفوذ، ويحاول أن يستعيده عبر لغم أقرب إلى لغة العصابات منها إلى لغة العمل السياسي.
الإخوان الذين اعتادوا لعقود اللعب على تناقضات الدول الكبرى، يحاولون اليوم إحياء خطاب قديم مفاده أنهم البديل المعتدل، وأن إقصاءهم سيؤدي إلى صعود جماعات أشد تطرفاً. ولكن ما تتجاهله الجماعة هو أن التجربة أثبتت أن الجماعة نفسها كانت البيئة التي نمت داخلها أشد الحركات تطرفاً، وأن خطابها المزدوج هو الذي مهد الطريق، في أكثر من بلد، لظهور فوضى استثمرتها الجماعات المسلحة.. ولذلك فإن التحذير الموجه لواشنطن لا يمكن قراءته إلا بوصفه محاولة صريحة للابتزاز.
إن من يعرف طريقة عمل الجماعة يدرك أن الإخوان لا يطلقون كلاماً كهذا عبثاً. فهم يوجهون رسائلهم بخبث محسوب، ويستخدمون لغة مزدوجة ناعمة في ظاهرها، حادة في مضمونها. هذا النوع من التهديد لا يصدر عن طرف سياسي طبيعي، بل عن تنظيم مؤدلج يتغذى على الاضطرابات، ويتقن إشعالها حين يحتاج إلى فرض نفسه لاعباً في المشهد. والحقيقة أن هذا التهديد يكشف أكثر مما يخفي. فالجماعة التي حاولت الادعاء بأنها تمثل مشروعاً سياسياً قابلاً للحياة، لم يعد لديها سوى الخطاب الذي كانت تخفيه لسنوات، خطاب يقوم على فكرة أن الجماعة هي مركز الثقل الذي يمكنه أن يمنع الفوضى أو يطلقها. ومن يراقب تحركات الإخوان في كل مكان يدرك أن الجماعة تتصرف دائماً بالطريقة ذاتها، فإذا فتح لها الباب تحاول السيطرة، وإذا أُغلق في وجهها تلجأ إلى تفتيت المشهد من الداخل.
إن ما لا ينبغي أن تغفله واشنطن اليوم هو أن الجماعة تواجه أسوأ لحظة في تاريخها الحديث. فهي مطاردة في كثير من الدول العربية، ومحاصرة دولياً. هذا الانكسار الاستراتيجي دفعها إلى محاولة اللعب على وتر الخارج بعد أن خسرت الداخل. وما الرسالة الأخيرة إلى الولايات المتحدة إلا جزء من محاولة يائسة لإعادة تقديم نفسها لاعباً مؤثراً، ولو عبر التهديد بأن أمن أمريكا نفسه قد يكون في خطر إذا استمرت في تضييق الخناق على الجماعة.
إن أخطر ما في رسالة الإخوان إلى الولايات المتحدة ليس مضمونها، بل توقيتها. فهي تأتي في لحظة إقليمية مضطربة، تشهد فيها المنطقة توتراً في ساحات عربية كثيرة. وفي هذه الساحات المضطربة، توجد أطراف ترتبط فكرياً أو تنظيمياً بالجماعة، ويمكن أن تتحول إلى أدوات ضغط إذا أرادت جماعة الإخوان إيصال رسائل أكثر فجاجة، وهذا ما يجعل التهديد الذي أطلقته الجماعة ليس مجرد كلام سياسي، بل إشارة إلى استعداد التنظيم لاستخدام ما تبقى له من نفوذ في أماكن قابلة للاشتعال.
لذلك، فإن أقل ما يمكن قوله إن الجماعة لم تعد تخفي نواياها.. فهي لم تعد تتحدث بلغة الأحزاب السياسية، ولا بلغة القوى المدنية، بل بلغة التنظيم الذي يقول صراحة إنه إذا لم يتم التعامل معه كما يريد، فسيلجأ إلى أدوات أخرى. وهذه الأدوات، كما يعرف الجميع، ليست سوى الفوضى التي أتقنت الجماعة إدارتها، حيثما وجدت، بشكل مباشر، أو عبر خلايا تدعي أنها تعمل بمعزل عن التنظيم.
إن أي تهاون في التعامل مع هذا الخطاب لن يؤدي إلا إلى تقوية التنظيم، ومنحه فرصة لاستعادة ما فقده. والرسالة التي وجهتها الجماعة إلى الولايات المتحدة ليست سوى تذكير بأن هذا التنظيم لا يزال يحمل في داخله القدرة على التخريب حين تتعارض مصالحه مع الواقع. وتجاهل هذه الحقيقة ليس خطأ سياسياً فحسب، بل خطيئة استراتيجية قد تدفع دول الغرب كلها، وليس الولايات المتحدة فقط، ثمنها لاحقاً.















التعليقات