محمد ناصر العطوان
لماذا يحتاج المثقف أن يصنع هويته بدلاً من أن ينتظر الدعوات من المساحات الثقافية الواقعية والافتراضية؟ ولماذا أكبر فيلسوف معاصر قرر افتتاح «مدرسة» بدلاً من إلقاء محاضرات؟
تخيل معي أيها القارئ العربي المسكين المحشور بين المفكرين والمثقفين! أن فيلسوفاً بريطانياً من أصل سويسري اسمه ألان دي بوتون، بدلاً من أن يظهر في التلفزيون ليل نهار ويعطي محاضرات في الجامعات ويبحث عن جوائز الدولة التشجيعية والتقديرية ومسابقات القطاع الخاص، ويقول «أنا كاتب كبير»، بدلاً من كل ذلك قرر أن يبني مشروعه الخاص!
في 2008 أسس «The School of Life» - مدرسة الحياة - والتي أصبحت لديها فروع في 12 دولة؟! لماذا فعل ذلك؟ ببساطة لأنه فهم أن المثقف الحقيقي لا «يبحث عن منصة»... لكن «ينشئ منصة»!
حسناً، لعلك تسأل من هو ألان دي بوتون؟ وكيف وضع الفلسفة في كبسولات «للبيع»؟ في البداية فإن هذا الرجل «الخواجة» له كتابات ثورية مثل عزاءات الفلسفة والتي نجح فيها في تحويل الفلسفة المعقدة إلى لـ«مسكن آلام» البسطاء... وكتاب آخر بعنوان «قلق السعي للمكانة» حيث حلل توترات الطبقة الوسطى وأسئلة القلق لديهم، وكتاب آخر بعنوان «فن السفر»، الذي صحح المفاهيم حول السياحة من الترفيه لـ«تجربة وجودية»... كذلك له مجموعة كبيرة من الكتب لا يتسع المقال لذكرها.
أعتقد أن هذا الرجل نجح في التحول من الكاتب إلى رائد أعمال، لأنه طور الفكرة من «أكتب كتاباً» لـ«أبني مؤسسة» ومن «أحاضر» لـ«أصمم تجارب»، ونجح في اكتشاف الفرق بين كاتب عادي وصانع حركة فكرية.
ما هي «مدرسة الحياة»؟ وما الفرق بينها وبين معاهد الاستشارات المنتشرة في وطننا العربي؟
رؤية المدرسة هي تعليم الناس كيف يعيشون باتباع منهج عملي في العلاقات والعمل والقلق الوجودي... وتقدم المدرسة خدماتها في شكل دروس: كيف تتخذ قرارات حكيمة؟ وعلاج وجلسات استشارية فلسفية، وكتب ومحتوى عملي لا نظري، وفعاليات وورش عمل جماعية... النتيجة وجود مليوني متابع على يوتيوب و12 فرعاً حول العالم من أستراليا إلى هولندا.
ومن حق أي مثقف ومفكر عربي الآن، يجلس في أي مقهى ويقرأ عن تاريخ الشام ومصر وبغداد، أن يتساءل عن سر النجاح لهذا «الخواجة»، ولماذا نجحت مدرسة الحياة؟ ببساطة إنه الابتكار والانطلاق من حاجات الناس... وتحويل الفلسفة إلى سلعة يحتاجها الناس... من دون تعقيد وتقعير للمصطلحات، والحديث عن «نظرية معرفية»، لكن تقديم كبسولات فلسفية تعلمك «كيف تتعامل مع والديك» من دون الدخول في «جدل ميتافيزيقي»؟ ولكن كيف «تختار شريك حياتك»؟
انطلقت «مدرسة الحياة» من الإطار الإيجابي، وبشعار بسيط «مجال عملنا إعطاء الناس أفكاراً جيدة»، أما مجال التركيز فهو تحسين جودة الحياة اليومية، أما النموذج فهو تجربة شاملة للمتعلم فيها كتب + فيديوهات + فعاليات + استشارات.
عزيزي المثقف! الذي صدع رأسنا بكلمات مثل «أنا مدعو لمؤتمر»... «أنا قرأت كتاباً نادراً... أنا سافرت لدولة وجمعت معلومات فريدة»... ارحم نفسك أرجوك، وارحمنا معك، فأنت موهبة ثقافية مدفونة وتستحق فعلاً أن تدفن أكثر... وستبقى في المكان نفسه والنادي نفسه والأرضية نفسها.
المثقف الحقيقي هو شخص يبتكر حلولاً، يصنع هويةً، يخلق حركةً، يؤسس مشروعاً مستداماً... لقد مللنا من المثقف المتكلم، والظاهرة الصوتية، وحان الوقت لنموذج المثقف الصانع والمبادر الذي يتحول لقيمة اقتصادية واجتماعية.
إن الدخول لاقتصاد المعرفة، والصناعات الإبداعية يتطلب تحويل معرفتك لمنتجات، وسلع وخدمات... ومشروع صغير أفضل من خطابات كثيرة في زمن تزاحم الكلام، والاستمرارية أهم من الصيت الموقت... ركز على احتياجات الناس... اسأل ما الذي يحتاجه الناس فعلاً وما الذي يؤلمهم؟ قدم حلولاً وبدائل عملية لمشاكل حقيقية.
قدم محتوىً ثقافياً بشكل مبسط... قدم تعليماً إلكترونياً عالي الجودة... استفد من إمكانيات غير مستغلة في تراثنا الفلسفي، من ابن خلدون للمعتزلة والصوفية، استفد من حكمتنا الشعبية في أمثال وأقوال يمكن تطويرها، قدم علم النفس الإسلامي للناس التي تشعر بالقلق والاكتئاب...
الثقافة ليست ترفاً واستعراض عضلات وقراءات... بل صناعة إبداعية تحتاج رواد أعمال!
لذلك، فالمعرفة بدون مشروع، تعتبر كلاماً فارغاً... الهوية بدون تطبيق، تعتبر وجوداً وهمياً... والتأثير بدون استمرارية، يعدُّ ضياعاً للطاقة... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر... وكل ما لا يُراد به وجه الله... يضمحل.















التعليقات