سليمان جودة

كان الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، قد قال في أثناء حضوره قمة الإعلام العربي في دبي، إنه كان قد شرع مع بابا الفاتيكان السابق، فرنسيس الأول، في وضع ما يشبه الميثاق الذي يحكم استخدامات الذكاء الاصطناعي بضوابط وأخلاقيات واضحة.

الحقيقة أننا في كل يوم، ومنذ أن جرى تنظيم أعمال الدورة الـ 23 للقمة في مايو من هذا العام، يتبين لنا أن ما قاله الإمام الأكبر كان في وقته، وأن ما حاوله مع بابا الفاتيكان السابق كان في محله، وأن الدكتور الطيب إذا كان قد فاته أن ينتهي مما شرع فيه مع فرنسيس الأول، فليس أقل من أن يواصله مع البابا ليو الرابع عشر الذي حل في محل فرنسيس الأول.

الذكاء الاصطناعي يبدو يوماً بعد يوم وكأنه عفريت خرج من قمقم، ويتطلع إليه العالم يوماً بعد يوم ولسان حاله يقول ما معناه، إن على الذي حضّر العفريت أن يصرفه، أو في أقل القليل يعيده للقمقم الذي خرج منه ليستقر فيه هناك.

تجليات الذكاء الاصطناعي لا تنقضي، وكلما فرغ الناس من متابعة واحد من التجليات هنا، فوجئوا بواحد آخر من التجليات يظهر هناك، والمشكلة أنها كلها تجليات مخيفة، وأنها تربك حياة العالم بأكثر مما هو مرتبك، وتثقله بالأزمات والمشكلات بأكثر مما هو مثقل بما لا حصر له من الأزمات والمشكلات.

ومن فترة، كان قد قيل إن روبوت من الروبوتات قد انتحر في كوريا الجنوبية، وإن انتحاره كان بإلقاء نفسه من أعلى أحد السلالم، وكان الخبر طريفاً بقدر ما كان مثيراً وغريباً، وفوق غرابته وطرافته وإثارته، فإنه كان مزعجاً ومقلقاً للذين يتابعون تجليات الذكاء الاصطناعي ويتخوفون من ذهاب هذه التجليات إلى مديات غير محمودة.

الموضوع الآن تجاوز حكاية احتلال الوظائف أو شغلها بدلاً من الإنسان، وتجاوز قدرة الروبوت على مزاحمة الأشخاص في أعمالهم، وأصبح هناك كلام عن خطورة أن تتمكن جماعات العنف والإرهاب من استخدام الذكاء الاصطناعي في الإضرار بأمن واستقرار العالم إذا ما استطاعت توظيف تجليات هذا الذكاء في هذا الاتجاه.

من قبل كان هذا الكلام نفسه يقال عن خطورة هذه الجماعات نفسها، ولكن الأمر في السابق كان يتعلق بأسلحة الدمار الشامل، ومدى قدرة جماعات العنف والإرهاب على استخدامها ضد العالم، إذا ما حصلت عليها من أي طريق وبأي ثمن. ولأن أسلحة الدمار الشامل كانت مكلفة أياً كانت نوعيتها، فإن احتمال حصول جماعات العنف والإرهاب عليها، فضلاً عن قدرتها على استخدامها وتوجيهها كان احتمالاً ضعيفاً ولم يكن في الحساب أو الاعتبار.

القصة بالنسبة لتجليات الذكاء الاصطناعي المتطورة بسرعة مسألة مختلفة، لأن جماعات العنف والإرهاب ليست في حاجة إلى شيء إذا أرادت توظيف هذه التجليات، إلا إلى القدرة على استخدام البيانات والبرمجيات والخوارزميات.. فإذا عرفنا أن الموضوع مع تجليات الذكاء الاصطناعي ليس مكلفاً مادياً كما هو الحال مع أسلحة الدمار الشامل، وجدنا أنفسنا أمام وضع يخيف فعلاً.

إننا كلما طالعنا تطوراً جديداً من تطورات الذكاء الاصطناعي وأنظمته وتجلياته وخطواته المتسارعة، تساءلنا في خوف إلى أي طريق يمكن لمثل هذه التطورات أن تأخذ العالم؟ وفي أي اتجاه يمكن أن تجره وراءها وهي تمضي بهذه السرعة غير المحسوبة وغير المنضبطة؟

وليس سراً أن ما قطعه العالم مع تكنولوجيا العصر خلال السنوات المعدودة الماضية، أو بمعنى أدق خلال الخمسة عقود الماضية، لم يقطع مثلها في مئات السنين السابقة عليها، ولو تجلت هذه الخطوات المتسارعة في ميدان أكثر من غيره، فلن يكون هذا الميدان إلا ميدان الذكاء الاصطناعي على وجه التحديد.

إننا إذا أحصينا عدد الشهور التي انقضت من مايو عندما تكلم الإمام الأكبر في الموضوع إلى اليوم، فلن يصل العدد لأصابع اليدين، ولكن إذا تابعنا ما طرأ على الذكاء الاصطناعي من تطورات خلال الفترة نفسها فستدهشنا المسافة الطويلة بين عدد الشهور القليلة المنقضية، وبين مساحات التطور الواسع الذي طرأ خلال الشهور نفسها على أنظمة هذا الذكاء.