إن التعنت بالرأي جزء من العصبية العربية التي تعتبر التنازل عن الرأي ضعفا، وما هو بالضعف، بل هو خصلة حميدة تستحق الاحترام، كما أن التماهي مع الآخر يعكس عمقا في التفكير وقدرة على التصور وحسن التقدير، لكن ثقافتنا التي شكلت الوعي الجمعي العربي تفرض علينا انقيادا للمألوف، غير مدركين أن سبب الإبداع هو ليس الشيء المألوف بل الشيء غير المألوف، لكن الانقياد في ثقافتنا شرعة وقانون وقديما قال معاوية بن أبي سفيان عن الأحنف بن قيس : هذا الذي إذا غضب, غضب لغضبه مئةالف فارس من بني تميم لا يسألونه فيما غضب. هل ترون عمق ثقافة الانقياد؟

سأروي لكم حكاية فيها الكثير من العبر. إذ كان هناك سيدة شديدة التدين، وكانت تسوط من يتفوه برأي يخالف قناعاتها بعبارات جارحة للقائل وشديدة الوقع على السامع، حتى أن من يأسف لحدوث مصيبة كانت تقرعه لضعف الإيمان في العدالة السماوية، وكانت تبالغ كثيرا في الالتزام بالآية الكريمة "ولا تخضعن بالقول" لدرجة أن من يكلمها يظن أنها تقرعه. ودارت الأيام فمرت بتجربة مريرة من الزواج الثاني ومن ثم الطلاق ومن ثم الرجوع وكانت تنفق دخلها على تربية الصغار بمشاركة بسيطة من زوجها. وليس هناك ضرورة لوصف مشاعرها، فالكل يعرف حالة الانكسار التي تعانيها الزوجة عندما يتزوج الزوج بغيرها ولا يقوم بواجباته اتجاه أسرته الأولى بالكامل. فشكلت هذه الحادثة نقطة تحول جذرية لدى السيدة، فأصبحت تنادي بتعديل قانون الأحوال الشخصية، ورفع المظالم عن المرأة، مذكرة الناس بأن تغير الأزمان يوجب تغيير الأحكام، فما الذي حدث؟ هل يجب أن تكوي النار جسد المرء شخصيا لكي يوسع آفاقه ومداركه؟

وقد سقت مثالا عاديا جدا، وقصدت ما هو أبعد من ذلك، وليس أمامي ميزان سوى ميزان خواتم الأمور، فإذا كان ما ينقاد إليه المرء يجلب له مكاسب كثيرة ماديا ومعنويا، فليمعن بالانقياد، حتى لا تكاد تميزه عن غيره من البشر، أما إذا كان الانقياد ديدن الناس على ما فيه من تدهور وانحدار وهبوط، فإن من يتبناه ظالم لنفسه، وظلم لغيره وظالم للمجتمع برمته، وظالم للحياة التي منحته فرصة واحدة للعيش، فإما أن يعيشها كما يهوى، أو أن يحولها إلى ورطة لا يعرف كيف يتخلص منها. 

كان أوغست كونت الفيلسوف الفرنسي واضع النظرية البنيوية الوظيفية للمجتمع، وقد زعم أن هناك أنماطا بنيوية ووظيفة منوطة بكل فرد في المجتمع، وهذه الأنماط متشابكة، وإذا اعتراها خلل في جانب، فإنه يؤثر على بقية أجزاء المجتمع، وبهذا صب كونت البشر في قوالب مسبقة الصنع، لكن آراء ماكس فيبر الفيلسوف الألماني كان لها أثر أعمق من ذلك في نظرية الفعل الاجتماعي، فبعد أن كانت النظرية الوظيفية تقيد الناس، أصبحت نظرية الفعل الاجتماعي مقنعة أكثر، فالفرد لا يجب أن يكون خاملا، بل أن التحولات الفكرية الكبرى قام بها أفراد وليس جماعات. وقد تساءل فيبر: لماذا حدثت الثورة العلمية في أوروبا وليس في منطقة أخرى من العالم؟ لقد فسر فيبر ذلك بابتعاد الناس عن التفكير الغيبي، وإطلاق الحريات الفردية، وحصر الاستخدام القانوني للقوة بالدولة فقط، وقال أن المجتمع يتطور ليس بفضل الحفاظ على نظامه، بل بفضل إتاحة التغيير الذي يحدثه الأفراد إذا كان مقنعا، وليس هناك معيار للقناعة سوى المنطق والتجريب، لذا نجد أن كثيرا من الناس في مجتمعنا العربي يتذمرون أنهم لا يحصلون على التقدير الذي يستحقونه، وعندما يهاجرون، يلاقون التكريم والترقية والمكافآت المختلفة، ذلك أن الثقافة الغربية تتيح للأفراد أن يسهموا في التطوير والتحسين، أما في مجتمعنا، فنحن نحارب غير المألوف بكافة الوسائل. 

لا ينبغي لذي رشد وفكر رزين أن ينتظر النار أن تشب في ذيل ثوبه لكي يعرف معناها، فإذا كان القانون مجحفا، فلنغيره، وإذا كانت الثقافة محبطة، فلنغيرها، وإذا كان نظام التعليم لا يشجع على الابداع والابتكار، فلنغيره، وإذا كانت التقاليد تكبلنا، فلنغيرها. ليس الأمر بتلك الصعوبة. وأخيرا، أود أن أروي قصة قصيرة لدعم فكرتي: كان هناك رجل يعمل مديرا عاما لشركة وكان ثريا، وأنجب تسع بنات، لأنه يقع تحت ضغط اجتماعي شديد لكي ينجب ولدا، فأنجب كثيرا ولم يحالفه الحظ، واكتفى ببناته على الرغم من ضغط الأقارب عليه لكي يتزوج بأخرى، واهتم ببناته وأصبح لهن شأن عظيم لأنهن عملن في شركة والدهن وساعدنه على التوسع والازدهار.