كثيرا ماتدور في اذهاننا أسئلة محيّرة عما يفعله المتطرفون المتأسلمون من أهوال القتل نحرا وتنكيلا وتشريدا وتخريبا شاملا ونقول ؛ ماذا تبتغي هذه الزمرة وهم يرِدون إلينا زرافات ووحدانا ، أعرابا وأغرابا من كل حدب وصوب لينضموا الى منظمات متمرسة بأنواع العنف والقتل البشع لامثيل له ولا عهد لنا به من قبل ؛ أقوام وكائنات بشكل بشريّ ومضمون يفوق الحيوانات وحشيةً لاتعرف سوى الدم لوناً والقتل وسيلة من وسائل الصراع وتمارس أعتى أنواع الإرهاب بحجة الجهاد والقتال في سبيل الله الغفور الرحيم الرؤوفاللطيف وفق مقاسات أسمائه الحسنى .
الأمر المحيّر الذي يراود الكثير من الناس فيتساءلون باندهاش عجيب ؛ هل ان خيار الذهاب من قبل هؤلاء الى الموت خيار شخصي ام انهناك جهات في الظلّ تعمل على لمّ هذه الشتات المبعثرة في معظم بقاع العالم لجمعها وزجّها في أتون حروب قلما يخرج منها احد سالما ، وكيف يتمّ اقناعهم لزجّ انفسهم بموت يكاد يكون محتّما ؟ !
وما الدافع الذي يدفعهم الى حبّ الموت الى حدّ عدم التصديق أحيانا في التعلق باوهام وخرافات اللقاء بالحور العين او مدّ سُفرة الطعام مع الرسول الكريم وتناول الغداء او العشاء معه ومشاركته المائدة وضمان نيل الفردوس .
أيعقل ان يكون الانسان ساذجا مغيب العقل والإرادة مطيعا طاعة عمياء ذليلا الى شيوخ أسافل وأمراء حروب بلغت بهم الساديّة مبلغا لايصدق ويكونون مثل عجينة رخوة يشكلون هذا الانسان وفق مايشتهون الى هذا الحد ؟
هناك من الحيوانات الداجنة كثيرا ما تعصي أمر سيدها ولاتنفذ رغبته فيما لو اقتربت من اماكن الخطر مثل الوقوع في الهوى السحيقة اوتجنب لهيب النار او اية مخاطر اخرى وتسعى الى تلافيها والابتعاد عنها حتى لو أرغمها مالكها الانسان وتحاول غريزيا ان تحمي نفسها من الهلاك او تحاشي اماكن الخطر خوف الموت والأذى .
لو افترضنا -- وقد يكون افتراضنا واقعا صحيحا وأمرا واضح اليقين-- بان تلك الجماعات الارهابية ذات ميول عبثية نهلستيةوحياتهم بلا معنى ولا هدف ولا يهمهم المستقبل لبناء مجتمع إسلامي بدليل ان اكثرهم غير مؤمنين أصلا ولم يكونوا قبلا مسلمين أتقياء بدليل انحدار عوائلهم من شرائح مهمشة ولم يكن آباؤهم او المقربون منهم من دعاة الاسلام ورجاله المعروفين ولم يلتزموا بتعاليم الدين في أصوله وفروعه بالشكل الشرائعي الصحيح وليست لديهم او لدى كبار رجالهم وأسرهم اية جذور جهادية قبلا الاّ بما ينتقونه الان ومن زمن قريب من آيات الجهاد والسيف والقتل التي لقّنها لهم منظروهم مشايخ وأمراء الفتن اذ لاعهد لهم ولا عوائلهم بالجهاد من قبل فما الذي قلبَحياتهم بهذه الصورة المرعبة . فما عدا مما بدا ؟ وهل كنّا سابقا مؤمنين وحاليا صرنا كافرين نستحق كل هذا الموت والعسف والعداوة ؟
احيانا اهجس ان هؤلاء لم يعد لهم مكان بهذه الدنيا وما عليهم سوى الفرار منها نحو الانتحار وتلقّي الموت برحابة صدر للتكفير عن ذنوبهم السابقة وخطيئاتهم التي ارتكبوها في مراحل حياتهم وقناعتهم التي تلبّست في عقولهم بان الجنة سوف تستقبلهم وستكون نسوة الجنة برفقتهم وخدمتهم في الفراش وغير الفراش وتحوطهم الوصيفات والولدان المخلدون .
إذاً هم ليسوا فاقدي الامل ويوقنون ان الجنة قاب قوسين او ادنىمنهم وهذا هو مستقبلهم ؛ اما الحديث عن تكوين نظام اسلاميواقتصاد اسلامي مانع للربا والفائدة واعادة الاطار السياسي للخلافة وفيما يتعلق بهيكل الدولة الاسلامية وبنائها فهذا ضرب من التخيّل لااعتقد بوجوده في مخيلة تلك الشخوص الغريبة التي نذرت نفسها كمشاريع للموت ، فالانتحاري يهمه ان يستقر في الجنة ويمارس الجنس مع معشوقته الحوراء ويعيش البذخ ويأمر وينهى مثل سلطان ويشير بإصبعه الى الولدان المخلدين كي يضعوا خمور الفردوس وملذاتها ومزّاتها امامه ويبقون طوع أمره كلما نادى عليهم .
اما الحديث عن الدين باعتباره المسبب الرئيسي لنوازع الارهابومظاهره التي باتت تقلق العالم كله فهذا ضرب من السطحية ووصم الاسلام بالإرهاب خطأ ومغالطة بل بالعكس ان الاسلام قد وقع ضحية لنوازع شريرة وتم تشويهه كليا من قبل مدّعي الدين من الماكرين ومؤججي الكراهية والعنف والمتاجرين به لينسفوا اتباعهم الجهلة المخدوعين مثلما ينسفون الاسلام نفسه وتمزيق المسلمين اوتشويهصورته امام العالم كله .
ومتى كان ديننا غائبا عنا ؟؟ ؛ ألم نكن في ظلاله وتحت خيمته في العقود الاربعة او الخمسة الماضية حيث كان الناس في سلام ووئام يتعايشون معا بمذاهب شتى ويمارسون طقوسهم بل وحتى يتشاركون سوية في ممارساتهم الدينية وان اختلفوا في الفروع لكنهم وحدة واحدة في الاصول .
ليس هذا فحسب بل كانت كل الاديان الابراهيمية في ارضنا تتعايش معا في سلام ووئام ومحبة ليس في بلادنا العربية والاسلامية إنما في كل بقاع العالم ، اذ كانت احياؤنا تضم المسلم والمسيحي وحتى اليهودي والصابئي وكلهم أحباب وجوار حسن وتكاتف وعون لأحدهماالاخر فما الذي جرى ليتفككوا ويعادي احدهما الاخر وتنتشر المعاداة والكراهة بهذا الشكل المقرف الذي نلحظه الان ؟؟
اؤكد ان اصبع الاتهام يوجّه الى من تزيّى ازياء الدين ولبس الجبّة والعمامة من الشياطين البشرية وأطال مكنسة لحيته وتنكّر بلباس الدعاة ليعيث فسادا ومكرا ويمزق نسيج التآخي صارخا ناعقا في منابر الجمعة والمناسبات الدينية بانْ " لا اسلام بلا حكم اسلامي " واعادة الخلافة واخضاع الناس لنظام الدولة الاسلامية ؛ وتبدو هذه الدعوات والصيحات للملأ الاكبر ظاهرا انها دعوة لاحياء الاسلاملكنها باطنا هدفٌ لتمزيق الاسلام والمسلمين وخلق الثغرات بين ابناءالامة الاسلامية الواحدة وتغذية الكراهية والعداء بين المسلمين انفسهم.
لقد دخلوا من هذه الباب ليسرقوا أواصر لحمتنا ويأخذوا منا السلام والسكينة والهدأة التي كنا نستظل بها ؛ هؤلاء ناخرو الدين ، وللاسففقد نجحوا مثلما نجح الساسة الطامعون اللصوص والفاسدون والفاشلون الحمقى في بعثرة حياتنا وتمزيقها بحيث تهلهل مجتمعنا وتفكك وبات من الصعب اعادة لحمته ؛ فما زالت تتكاثر أمصال التشدد الديني التي يزرقها الدعاة في عقول الشبيبة الاسلامية المهملة العاطلة عن العمل والامل معا ، اذ لاتوجد بوادر ناجعة في زجّ الشباب والاهتمام بهم ورعايتهم وإشغالهم بما هو نافع لمجتمعاتهم ولانفسهمحتى نسينا اناشيدنا الاولى القائلة بان الشباب لهم الغد والمجد الموحّد وكنّا مغفلين حقا حينما عوّلنا عليهم بانهم سيعطفون بمجتمعاتهم نحو النجاح والرقيّ والعقلانية والتنوير واذا بهم يتسلحون بعقائد فاسدة وقاتلة ويفجرون انفسهم على اهليهم بلا اية حالة من الانفعال وصحوة الضمير والاحساس بالذنب ويعيثون خرابا وهدماً بحواضرهم ومدنهم العريقة ؛ ولتنظروا بملء اعينكم ماذا اصاب مدن العراق والشام حتى غدت أكواما من الأنقاض والخرائب التي هربت منها حتى الكلاب والقطط السائبة والحيوانات الشاردة .
ليس الخراب في العمران وحده الذي حلّ في ارضنا بل ان خراب العقول والنفوس يبقى الاسوأ والاكثر بشاعة .. حين كنا فتيانا وشبابا كان غطاؤنا وسترنا وحصننا اسلام مختلف جدا عما نراه اليوم ، ايمان مشبع بالمحبة بعيدا عن الطوائف والتفصيلات العقائدية المذهبية ولم نكن نعرف التطرّف والاسلمة والتحزب الديني التي ولّدت فينا الكراهية والنفور مع المختلف ، ربما كانت الفطرة السليمة طابعنا الذي جعلنا نمتلك هذه السعة من الايمان رغم اننا كنا قليلي المعرفة في الاختلافات العقائدية والرؤى المذهبية وخصوماتها فيما يتعلق بالفروع والاصول ومايتعلق بأساس الحكم الاسلامي بشأن الخلافة والامامةوهو المشكل الخطير بين مايسمون الشيعة والسنة .
فما حاجتنا الى هذا الاختلاف امام النظم السياسية الحديثة القائمة الان لصناعة مجتمع مدني متقدم اساسه السواسية والحرية في اعتناق المرء ما يشاء وترسيخ الديمقراطية وحكم الشعوب الذي يقرره الصندوق الانتخابي ؟ .
ولو سلّمنا باعتراف الشيعة بالخلافة واعتراف السنة بالإمامة وهذا هو أساس الاختلاف بينهما ، فهل هذان النموذجان العتيقان في ادارةالحكم هما الاسلم لنا ونحن نعيش في عالم يرتقي بشعوبه ويتبنى انظمة حكم ديمقراطية حديثة ويولي الشعوب الخيار في ان تحكم نفسها بنفسها بعيدا عن قداسة النصوص القديمة المتهرئة وخزعبلات فقهاء الامس وفتاوى مضحكة لاتنسجم ابدا مع ظرفنا الحالي ؟؟
لنعترف وبكامل قناعاتنا ونقولها بملء أفواهنا ان الاسلام المؤسس على السياسة او مايطلق عليه التأسلم الطاغي الان هو سبب ومصدر اساسي للتخريب والتدمير والارباك الذي نعيشه اليوم وهناك زمر من الدعاة الماكرين والنافخين على الجمر لقيادة الاسلام وفق اهوائهموتحريف مساره باتجاه العنف وبث الفوضى والحقد والعداوة بين المسلمين انفسهم ويتشدقون بكلمة ان لااسلام بلا حكومة اسلامية كما يبدو ظاهرها البريق لكن باطنها الحريق يقودهم مشعلو الفتن وتشتيت المسلمين واشاعة الفوضى من قبل المتآمرين على الاسلام ومشوهي مبادئه في تحقيق السواسية بين الناس وحرية العقيدة والجنوح نحو السلم كي يدمروا الاسلام من قبل من يدّعون انهم رعاته من المعممين والزاعقين في الجوامع وفي الفضائيات مدفوعي الاجر لاجل زعزعة الاسلام وهدمه من الاساس
هؤلاء هم منافقو الدين ومحرّفوه لمصالحهم الشخصية الذي قال عنهم أحد حكمائنا " اني لااخاف مؤمنا ولا مشركا فالمؤمن يمنعه ايمانه من العبث بدينه والمشرك يمنعه شركهُ ؛ انما الخوف من منافق الجنان وعالم اللسان فهذا يقول ماتعرفون وتقولون ، ولكنه يفعل ما تنكرون " .
فالذنب لايقع على الدين – أي دينٍ – وكل المآسي والكوارث تجيء ممن يسخّر الدين لأهوائه وأهواء أسياده ممن يحرّكونه لأصدار فتوى تفعل فعلها لتمزيق العقول وترفع الايدي للتنازع والخصام وتجنيد الغوغاء والدهماء والرعاع من مغيبي الاذهان والمهملين والمهمشين وزجهم في معمعان الوغى وتصوير الجنة بانها الملاذ الارحب لهم لتحقيق مايصبون اليه خاصة انهم لم ينالوا من متع الحياة حتى أبخسها وأقلّها متعة .
وفي ظني ان اول ضربة للإطاحة بظاهرة التأسلم هي جذّ رؤوس دعاة الارهاب ومصدري الفتاوى الملغمة وقطع ألسنة ذوي التصريحات العدوانية واستئصالهم من المساجد وسنّ القوانين لمحاسبة وعقاب ايّشخص مهما كانت منزلته الدينية وحظوته ، فلنبدأ اولا من الرؤوس ولنا في بقية المعالجات الاخرى حديث اخر .
جواد غلوم
التعليقات