أرخت استقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد رفيق الحريري بظلالها على المشهد السياسي اللبناني والإقليمي، فيما تنامت التداعيات بشكل بارز في الداخل اللبناني واثيرت الضوضاء حول وجوده في السعودية، ليخرج الى الاعلام عبر مقابلة مع الاعلامية بولا يعقوبيان ويبدد هذه الشكوك التي أصرّ البعض على إذكائها رغم أن كلام الحريري كان واضحًا وصريحًا وغير جديد، ولطالما كان ينادي به طيلة الفترات السابقة ؛ وهو ضرورة تحييد لبنان عن العواصف الإقليمية مكررًا عبارة "النأي بالنفس" و" لبنان أولا" بشكل كبير، مؤكدا ان استقالته جاءت من باب حرصه على البلد لا على مصلحته الشخصية، برغم من التهديدات الأمنية وخطورة احتمال التعرض للاغتيال في بلد كلبنان مفتوح على كل الاحتمالات .
مطالب الحريري إذن تتلخص بضرورة سحب عناصر "حزب الله" من الدول المجاورة ووقف تدخلاته العسكرية فيها لاسيما اليمن وسوريا، وهو أقل ما يمكن فعله من قبل رئيس وزراء دولة لا تريد الحرب!
هذه هي النقطة المحورية الأهم التي استوقفتني في هذا المشهد، الذي يحاول البعض استغلال ضبابية شكلياته للتهويل من سيناريوهات محتملة لحرف الانظار عن جوهر الموضوع .
الملاحظ انه بعد ان كانت مطالب معظم القوى الوطنية بعد عام 2000 تتمحور حول ضرورة سحب سلاح "حزب الله" من الداخل اللبناني نفسه واجراء خطوات عملية لتفكيك الدولة داخل الدولة، وتحويله من حزب عسكري الى حزب سياسي كما بقية الاحزاب؛ انحدر سقف المطالب تلك إلى مجرد المطالبة بخروجه من الحرب الاقليمية المجاورة التي ممكن ان تدخل لبنان في اتون حرب ضروس .
إذن لم تكن طاولة ما عرف بالحوار اللبناني التي انعقدت خلال الاعوام الفائتة والتي كانت تحاول ايجاد صيغة لنقل السلاح من يد الحزب الى يد الدولة تحت مسمى " الاستراتيجية الدفاعية " سوى مضيعة للوقت حاول الحزب من خلالها المراوغة وكسب الوقت ليس إلا، كذلك الامر بالنسبة لكل المحاولات الأخرى التي توالت فيما بعد وصولا الى تشكيل الحكومة في العهد الرئاسي الجديد مع كل ما رافقها من شعارات توافقية ومحاولات لربط النزاع .
والسؤال الحقيقي الذي ينبغي الرد عليه حول ما هو السبب الحقيقي الكامن في تمدد "حزب الله" وتنامي قوته برغم من الضغوط الداخلية والخارجية للحد من انتشاره والتي لا نعلم مدى جديتها على اية حال؟
بشيئ من التروي والهدوء وبعيدا عن التحليلات الانفعالية؛ فإن الجرح الحقيقي يكمن في التركيبة السياسية اللبنانية ككل والتي هي مكمن كل فساد، وهي التي أوصلت "حزب الله" وغيره الى ما هو عليه ، والتي تعيد انتاج الفساد برمته في دورة تكرس نفوذ زعماء الطوائف واعادة انتاجهم مرة تلو الأخرى ، و"حزب الله" استفاد بذكاء من تلك المعادلة ليس لانتاج "زعيم شيعي موحد " وحسب، بل لتكريس منهج عقائدي ينبني عليه استراتيجية بعيدة المدى تتعدى الجغرافية اللبنانية الى الدخول العلني في حروب الاقليم تحت دعم مباشر خارجي من ايران، وبغطاء سياسي داخلي ساهم الساسة اللبنانيون في تأمينه عن قناعة او عن غير قناعة!
ومن وجهة نظري؛ أن الخطورة الاكبر في "حزب الله" ليس في سلاحه الدامي وحسب بل في بنيته التنظيمية الفكرية ومشروعه السياسي العقائدي و تركيبته الثقافية والديموغرافية.
نعم هذه التركيبة الاجتماعية التي بدء التحضير لها منذ سبعينيات القرن الماضي، وفيما كانت القوى اللبنانية غارقة في سباتها العميق، كانت أذرع الثورة الايرانية تعمل بهدوء شديد وفي القرى النائية على تربية قادة ونشر فكر الولي الفقيه في كل مرافق الحياة اليومية؛ بدءا من المدارس والانشطة الكشفية والرياضية والثقافية والجمعيات النسائية وغيرها الكثير وصولا الى مراكز صنع القرار.
ان انعكاس الطغيان وتحكم "حزب الله" في مفاصل الدولة لهو حصيلة عمل دؤوب لأعوام طوال، أدى إلى انتاج شريحة مجتمعية كبيرة من لون واحد ولاؤها الأعمى المطلق للحزب وأمينه العام، فيما عملت المؤسسة الرسمية اللبنانية على غض الطرف عن تعاظم ذلك النفوذ بذريعة و ضرورة "المقاومة"، في ظل غطاء بعض السياسيين المنتفعين من الفوضى العارمة في دولة هزيلة .
ومن زاوية فكرية، فإن "حزب الله" لا يختلف عن " داعش "، كما الكثير من القوى التي تتبنى الأيديولوجيات وتعمل على عسكرة محازبيها، فكلاهما يرتكز على مشروع عقائدي ويسوّغ العنف بحق الآخر .
فالبنى الفكرية التي يتأسس عليها الخطاب المؤدلج؛ وتعتمده كل الحركات الأصولية خلال التعبئة الفكرية والتربوية تكاد تكون متطابقة ، و برغم التناقض الصارخ في آليات ترجمة هذه الأفكار فيما بين تلك الحركات نفسها التي تبدو وانها متنوعة او على طرفي نقيد، بيد انها في حقيقة الأمر كلها تكرس العنف وتسوغ وتستمد من العقيدة مشروعيتها .
وهنا سؤال آخر يطرح نفسه : لماذا نجح "حزب الله" كحزب عقائدي في التغلغل في مؤسسات الدولة دونا عن الأحزاب العقائدية الأخرى من طوائف أخرى، ولِماذا سُمح له بالتمدد بسلاحه دونا عن الأحزاب المشابهة عقائديا له، حيث تمت مجابة تلك التنظيمات واجتثتها من جذورها؟
ربما هناك امرين : الأول: إرادة دولية ضمن التوازانات الاقليمية بالابقاء ضمنيا على نفوذ "حزب الله " دون غيره .
الامر الثاني : مرونة "حزب الله " في التأقلم السريع مع تلك المتغيرات بحيث انه يبدل بسرعة من سلوكه السياسي وفقا للمصالح ، مستفيدا من ضبابية الاوضاع وهلامية تركيبته التي تسهل له اعادة التموضع السريع!
ان الشواهد التاريخية اثبتت ان استخدام العقائد والايديولوجيات في الصراعات والحروب وتقاطع المصالح الذي يتم بين السلطات والمجموعات الايديولوجية في فترة من الفترات سينقلب وبالا على النظام بعد انتهاء المصلحة، والشواهد في دولنا كثيرة فقد حاولت بعض الأنظمة أن تغذي مجموعات ايديولوجية تقوم على التطرف من اجل استخدامها لمصالحها الداخلية منها والخارجية، والنتيجة هي ان تلك المجموعات خرجت على الأنظمة الداعمة وتحولت الى عدوها الرئيس، والسبب يكمن في أن العقائد ترسخ في البنى الفكرية التي لا تتغير بسهولة ولا تتبدل ، في حين أن السلوك السياسي للانظمة يتبدل ويتغير وفق الاوضاع الاقليمية والدولية .
على اية حال فإن تفكيك منظومة مثل " حزب الله" لا يمكن ان يتم في ليلة وضحاها، كما ان الفساد السياسي الطائفي في لبنان لن يتغير بسهولة، وليس من المتوقع في المدى المنظور الخروج من هذا العنف ما لم يحدث وعي حقيقي لدى الناس بضرورة التخلي عن تلك العقيدة القتالية المولدة للإرهاب، والبداية تكون بتفكيك البيئة الحاضنة بنشر الوعي لدى الناس وتوضيح الصورة لهم وتأمين فرص حقيقة لهم بحيث يكون ولائهم للوطن لا لحزب او زعيم، وتوحيد المناهج التربوية واستبعاد مادة "الأديان" التي يعمل كل فريق على "عسكرتها"، وتأسيس حقيقي لتربية قائمة على اللاعنف في دولة المواطنة والقانون العادل!
نعم سحب السلاح قد تكون خطوة؛ بيد ان الاهم تفكيك الحاضنة الشعبية عبر سحب السلاح من الرؤوس و تبديد العنف من النفوس، فلا قيمة للسلاح اذا لم يجد من يستخدمه!
التعليقات