في مقالي السابق الأسبوع الماضي، تطرقت فيه وباختصار إلى مراحل حكم الإمارات الكوردية والتي انتهت بسقوط (إمارة بوتان) وأسر حاكمها بدرخان بك في عام ( 1847 ), ومع انتهاء وسقوط (إمارة بوتان)، بدء مرحلة نضال رجال الدين التي برزت بثورة (الشيخ عبيدالله النهري عام 1878)، مرورا بثورات وتمردات وانبثاق كيانات وجمهوريات كوردية (شبه المستقلة) والتي لم تدم طويلا، وانتهائأ بنكسة 16 تشرين الأول 2017. 
ومما تجدر الإشارة إليه، أن غالبية قادة الإمارات الكوردية والزعماء الكورد السياسيين وكبار شيوخ العشائر وعلماء الدين الإسلامي قد تم اغتيالهم وتصفيتهم على يد الدولة الصفوية والعثمانية وبدعم وتشجيع الدول العظمى، على سبيل المثال : قيام الشاه عباس عام 1690م بقتل الأمير الكوردي (خاني لبَ زيرين الأمير ذو الكف الذهبي أمير قلعة دمدم و رئيس عشيرة البرادوستي ) (1 ) وذالك بسبب قيام الأمير ( لبَ زيرين، بترميم وتطوير (قلعة دمدم )، مما اعتبره الصفويون خطرا على نفوذهم في المنطقة واعتبرالشاه عباس تهديدا للكيان الصفوي، فأرسل جيشا كبيرا حاصر القلعة عام 1609 حيث انتهى الحصار بهزيمة وقتل الإمير في صيف العام التالي )، وقتل رئيس عشيرة (الموكري) الكوردية مع 150 من مرافقيه، واغتيال (جوهر شكاك) عام 1908م مع مرافقيه، واغتيال (سمكو شكاك) عام 1930 بعد ان استطاعت السلطات الإيرانية في إقناع ( الشكاك ) بالقدوم إلى مدينة ( أشنوي، للمفاوضات، وهناك نُصب له كمين واستشهد غدرا (راجع الجزء الثاني من المقال ) ، وإعدام رئيس جمهورية مهاباد الشهيد (قاضي محمد) عام1947م، وكان آخرهم (الدكتور عبد الرحمن قاسملو) زعيم الحزب الديمقراطي الكوردستاني الإيراني وسلفه (صادق شرفكندي)، حيث تم اغتيالهم على يد سلطات الجمهورية الإسلامية الإيرانية في سنوات 1989 و1992م على التوالي، كما قامت الدولة العثمانية باعدم( الشيخ سعيد البيران ) وارتكاب ( مجزرة درسيم واعدام سيد رضا)(2 )، وبموجب تقرير للاستخبارات البريطانية في شهر اب عام 1925 اعدمت الحكومة التركية ( 357 ) من الشخصيات والزعماء ورؤوساء العشائر الكوردية, وفي 15 شباط عام 1999 تم اختطاف الزعيم الكوردي ( عبدلله اوجلان المعروف بـ ابو )(3 ) في نيروبي، بعد ان رفضت روسيا وهولندا واليونان وإسرائيل وامريكا استقبالها كلاجىء سياسي،وان ضخامة حجم المؤامرة كشفت عن مدى تورّط الدول الإقليمية والدولية في محاربة تحرر أبناء الأمة الكوردية بشتى الوسائل وتحت (يافطة الديمقراطية ). 
وهنا من الضروري التذكير بدور الدول العظمى بوضع ( عوائق كبيرة، وكبيرة جدا ) أمام إقامة كيانات كوردية مستقلة, فلكل من لا يتمتع بذاكرة قوية، نذكرهم من خلال هذه السطور دور الولايات المتحدة الامريكية وروسيا في القضاء على (جمهورية مهاباد) و اخماد (ثورة ايلول التحررية عام 1975 )( راجع الجزء الثاني من المقال ), فهل يستطيع احد ان ينكر دور الولايات المتحدة الامريكية وروسيا في القضاء على (جمهورية مهاباد) التي سقطت بعد 11 شهر من إعلانها؟ هل يستطيع احد ان ينكر دور واشنطن من خلال وزير خارجيتها الثعلب المخضرم ( هنري كيسنجر ) في إبرام و انجاح اتفاقية الجزائر التي ادت الى اخماد الثورة الكوردية بقيادة الزعيم الراحل الملا مصطفى البارزاني ( راجع الجزء الثاني من المقال)؟ هل يستطيع احد ان ينكر دور (جوزيف ستالين ) في القضاء على (جمهورية كوردستان الحمراء )، عندما انحرف عن الايديولوجية الماركسية اللينينية و اعتبر مشروع قرار (لينين) حول العلاقات بين الجمهوريات الروسية وبين الجمهوريات المستقلة الاخرى ( تغريدا خارج السرب)؟ 
ولنعد الان إلى موضوع إستفتاء الإنفصال الذي جرى في 25 من أيلول الماضي وتبعاته ونسأل : لماذا وقفت امريكا بجانب حكومة العبادي وخذلت حكومة الإقليم بعد اجراء الإستفتاء الكوردستاني؟ لماذا وقفت الولايات المتحدة ( كمتفرجة ) ولم تعارض انتشار المزيد من الوجود الإيراني والميليشيات الشيعية في المناطق المتنازعة عليها؟ لماذا سكتت واشنطن من استخدام الحشد الشعبي، والجيش العراقي، أسلحة أمريكية في الهجوم على إقليم كوردستان وقوات البيشمركة في المناطق المتنازعة عليها لاستعادة السيطرة على (الحقول النفطية )في محافظة كركوك وفي مناطق اخرى؟ لماذا اعلنت واشنطن عن اجراءاتِ جديدة لتعزيز تواجدها العسكري في ( العراق وسوريا )؟ لماذا انزعجت امريكا من صفقات شركة ( روسنفت ROSNEFT) الروسية العملاقة في كوردستان والتي تعتبر من احدث المناطق النفطية وأسرعها نمواَ في العالم؟ 
للإجابة عن هذه التساؤلات لابدّ من الإشارة إلى جملة من الأمور يمكن تلخيصها بما يلي: 
1 حاولت واشنطن بصمتها ان تحافظ على موازين القوى بين اربيل وبغداد على رقعة الشطرنج الامريكية، بمعتى اخر ( الصمت كان المحاولة الاخيرة لواشنطن لإخبار القيادة السياسية الكوردية بكل شيء لم يفهموها حينما حذرهم مرارا من تبعات الإستفتاء. 
2 اعتادت الولايات المتحدة الأمريكية على لغة التهديد والعقاب ضد من لا يتماهى مع سياستها ،وعليه فرضت واشنطن من خلال بغداد حصارًا على كوردستان خوفا من تنامي قوتها الاقتصادية عن طريق روسيا والصين، بالضبط كما فعلت مع كوبا منذ خمسينيات القرن الماضي, وكما فعلت ايضا مع العديد من دول أمريكا اللاتينية ومع الصين, اضافة الى العديد من الدول العربية الأخرى مثل( ليبيا والسودان وسوريا والعراق ) ، بعد ان هددت هذه الدول مصالح الولايات المتحدة الامريكية ووقفت ضد الاحتكارات الاقتصادية الأمريكية. 
3 ان الموقف الامريكي الصارم تجاه الإقليم يأتي في إطار ما يذكره مراقبون من أنها داعمة للرئيس الوزراء (حيدر العبادي) لتولي ولاية ثانية، من جهة، و تغيير ميزان القوى بين ( بغداد واربيل )( طبعأ لصالح بغداد ) وخاصة بعد اعلان عن نتائج الإستفتاء من جهة ثانية, وذالك لارغام (اربيل) كي تلتزم بشروط (بغداد) دون قيد او شرط، بمعنى اخر، أن سكوت امريكا تجاه الاجتياح العراقي في 16 تشرين الاول 2017 كان بمثابة معاقبة القيادة السياسية الكوردية لعدم التزامها بنصائح واشنطن وخروجها عن بيت الطاعة الأمريكي, خاصة في موضوع عدم تاجيل الإستفتاء، وإبرام صفقات اقتصادية كبيرة مع روسيا، وهي رسالة واضحة وصريحة لجميع الدول والحكومات ( في المنطقة العربية والشرق الاوسط ) من خلال الإقليم بان ليس لواشنطن اصدقاء وحلفاء دائمين، وإنما مصالحها تتحكم بنوعية العلاقة مع الدول والحكومات. 
*( اتطرق في الجزء القادم باختصار الى تكملة اسباب تخلي واشنطن عن الإقليم والتلاطمات السياسية الداخلية والأمواج الهادرة والمخيفة الخارجية التي تهدد مصير شعب كوردستان بعد ان صوت لصالح الانفصال و رفض ان يكون جزءا من العراق ) 

يتبع 

ـــــــــــ

1 تعتبر معركة (قلعة دمدم) من أهم المعارك التاريخية الموثقة في تاريخ كوردستان، وقعت المعركة عام 1609 بين االكورد القاطنين في المنطقة الواقعة في شمال غرب كوردستان ايران وعلى حدودها مع تركيا, بالقرب من بحيرة أرومية بقيادة الأمير الكوردي (خان لبزيرين الامير ذو الكف الذهبي )، والصفويين وذلك إثر قيام الامير (لب زيرين ) بترميم وتطوير قلعة دمدم، مما اعتبره الصفويون خطرا على نفوذهم في المنطقة، فأرسلوا جيشا حاصر القلعة عام 1609 حيث انتهى الحصار بهزيمة الأكراد في صيف العام التالي.
تعد ملحمة (( الأمير ذو الكف الذهبي )) المعروفة بأسم ملحمة ( قلعة دمدم ) من أشهر ملاحم البطولة الكوردية على الأطلاق وهي تروي قصة نضال أمير كوردي شيد قلعة حصينة بهذا الاسم لحماية نفسه وأبناء عشيرته وإمارته من شرور الأعداء، دافع حماة القلعة الشجعان عن حياتهم وحريتهم واستقلال إمارتهم الصغيرة حتى آخر رجل ولم يستطع الغزاة من أسر أي مقاتل كوردي ولم يجد الشاه و جنوده بعد دخولهم القلعة عن طريق (المكيدة والخيانة ) الا الخرائب والأنقاض، حيث فضل الأمير الموت بشرف وكرامة على حياة الذل والمهانة في ظل حكم الشاه عباس الصفوي. 
2 اندلعت ثورة درسيم بين عام 1937 1939 في منطقة (درسيم ) المستقلة التي كانت حدودها تشمل جميع أنحاء كوردستان الشمالية تقريباً. ، وكان أبرز زعمائها الروحيين والقبليين ( سيد رضا وعلي شير ).اندلعت شرارة الثورة ضد قانون إعادة التوطين والنقل القسري للسكان، ضمن تنفيذ حكومة تركيا المركزية لسياسة التتريك آنذاك، استخدمت تركيا جميع انواع الاسلحة والمدافع واستخدمت الطائرات ( من نوع فيلو ) وشنت حملات شديدة من القصف الجوي والبري على المنطقة،كما أضرمت النار في جميع الغابات المحيطة بــ(درسيم)وهدمت البيوت واحرقت البساتين, و ارتُكبت مجازر جماعية بشعة بحق ابناء المنطقة بمساندة العشائر الموالية للحكومة التركية، وفي الاخير استطاع والي مدينة (أرزنجان والتي تقع شمال شرقي تركيا ) اقناع ( سيد رضا ) بالقدوم اليه للمفاضات ووعده بتنفيذ جميع مطاليبه، صدّق سيد رضا كلام الوالي ووافق عليه ، وعندما وصل الى ( ارزنجان) تم اعتقاله وحكم عليه بالاعدام شنقا حتى الموت. 
3 عبدللة اوجلان،المعروف شعبيا بـ( اپو اي العم ) مواليد 4 نيسان عام 1948،أورفة جنوب شرق تركيا، وهو مؤسس وأول قائد لحزب العمال الكوردستاني عام 1978، ألقي القبض عليه في عملية مشتركة ما بين المخابرات المركزية الأميركية والمخابرات الوطنية التركية والموساد الإسرائيلي، في كينيا بعد خروجه من السفارة اليونانية في نيروبي، وتم جلبه مخدراً إلى تركيا وبطائرة خاصة, وفي 28 29 إبريل 1999 حكم عليه بالاعدام بتهمة الخيانة العظمى وفقا للمادة 125 لقانون العقوبات التركي, وثم صدر حكم قضائي تخفيفي بالحكم عليه من الإعدام إلى المؤبد،عندما ألغت تركيا وبشكل مشروط عقوبة الإعدام في آب 2002، ظهر أوجلان لاول مرة في قاعة المحكمة، داعياً إلى التهدئة والسلام والحوار وطيّ صفحة الحرب وسفك الدماء بين الشعوب ، معتذراً من أمّهات الضحايا الجنود الأتراك. ومنذ ذالك الوقت يعبش أوجلان في سجن إنفرادي معزول في جزيرة ايمرالي الواقعة في جنوب بحر مرمرة، أطلق اوجلان عبر محاميه الخاص (إبراهيم بيلمز) دعوة مخلصة لوقف إطلاق النار في سبتمبر 2006 في مسعى للمصالحة مع تركيا، وطلب من حزبه عدم استخدام السلاح إلاّ في الدفاع عن النفس وركّزت على ضرورة إنشاء علاقات جيدة مع الشعب التركي والحكومة التركية.
وفي مارس 2013 طلب من مقاتلي حزبه وقف إطلاق النار ضد الحكومة التركية وسحب المقاتلين من تركيا إلى اقليم كوردستان ، تمهيداً لاتفاق سلام ينهي الكفاح المسلح ، الذي بدأ عام 1984 وأوقع عشرات آلاف القتلى، وجاء نصأ في رسالة اوجلان : (إن هذه المرحلة يجب أن تتراجع فيها البنادق وتتقدم فيها السياسة ) ، الا ان جهوده ومحاولاته باءت بالفشل و تجدُّدت المواجهات والمعارك بين الجانبين. 

المصادر :
1 A HISTORY OF IRAQ – Charles Tripp
2 كورد وكوردستان للعلامة محمد امين زكي المجلد (الاول والثاني والثالث ) مطبعة دار السلام ( بغداد ) 1350 هـ 1931 م
3 م. س لآزاريف تاريخ كوردستان.
4 الكورد والمسألة الكوردية الدكتور شاكر خصباك منشورات الثقافة الجديدة.
5 منذر الموصلي، الحياة الحزبية في كوردستان.
6ـ فلاديمير ايليتش أوليانوف لينين، مسائل بناء الاشتراكية والشيوعية في الاتحاد السوفيتي موسكو دار التقدم.
7 كردستان ودوامة الحرب الدكتور محمد احسان.
8 سنوات المحنة في كردستان اهم الحوادث السياسية والعسكرية في كردستان والعراق من 1958 الى 1980 المحامي شكيب عقراوي
9 حنا بطاطو العراق، الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية، الكتاب الاول.
10 لازاريف، المسألة الكردية (1917-1923)..
11 لقاء الكاتب مع سكرتير الحزب الشيوعي العراقي السابق الراحل ( عزيز محمد ) 2016.
12 ملحق مذكراتي (الشاعر الوطني الكوردي الكبير احمد دلزار الجزء الاول والثاني ).
13 خلاصة تاريخ الكورد وكوردستان للمؤرخ محمد أمين زكي (1880 – 1948)، 
14 البارزاني والحركة التحررية الكردية الجزء الاول مسعود البارزني.