(حسيبك للزمن) .. هكذا رددت أم كلثوم كلمات عبدالوهاب محمد، وتمايل معها الشرق كله طربا ونشوة على أنغام السنباطي .
دروس الزمن تبقى مهمة في حياة الناس والشعوب، فالزمن يعاقب على نار هادئة، فمهما توهّم صاحب الجرم أنه أفلت من العقاب، يظل الزمن متربصا به إلى أن يدفع ثمن ما اقترفته يداه !
والزمن مثلما يعاقب فهو أيضا يداوي ويضمد الجراح الغائرة، بل ويشفيها بقوة سحرية، فتتلاشى العداءات، وتخمد نيران الحقد والكراهية، وتنفتح الساحة على واقع جديد لا تكبله الضغائن والثأرات .
الزمن هو الذي قاد مصر وإسرائيل لتجاوز حروباتهما الدائمة عبر معاهدة كامب ديفيد، والزمن هو الذي أوقف حرب الشمال والجنوب في السودان باتفاقية نيفاشا فذهب كلٌ إلىحال سبيله، والزمن هو الذي جعل إريتريا تستقل عن اثيوبيا بعد صراع طويل زاخر بالدموية والتشريد واللجوء .
كل المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج وما يجاورها تعج بالصراعات والآلام والمعاناة، بل العالم كله يضع يده على قلبه .. فلم يعد هناكمكان آمن في زمن الإرهاب المهاجر والمُعدي مهما بلغت درجات الحصانة ..
العالم بلغ مراقي سامقة في العلوم والتقنية والرفاهية، لكنه شهد انهيارات أخرى سماتها الظلم والمعاناة والفقر في أصقاع عديدة من البسيطة .
ليس أمام العالم سوى أن يتغير، وأن يزيل كل مواقع الاحتقان، فنيران المظالم تمتد للظالم والمظلوم، والقرية الكونية بلا جُدُر تحميها من امتداد النيران إذا تأجج أوارها، وأثمان الصراع أفدح بكثير مما كانت تدفعه البشرية من قبل، ليخرج منها كل منتصر أو مهزوم نازف الجراح مهيض الجناح .
لكن عنصر الزمن المداوي لا أحد يعرف مداه، فقد تنتظر الصراعات عقودا طويلة حتى يتجرعالكل علقمها، ليجنحوا أخيرا للتصالح والتجاوز، وقد تمتد المعاناة سنوات وسنوات، حتى تشرق شمس الأمل وينفرج الكرب وتهب نسمات العيش الرغد الآمن للجميع .
عالم اليوم على منعطف سيؤدي إلى تغيير هائل في كل تفاصيل الحاضر. هكذا تسير النواميس التي لا تعترف بدوام الأحوال . وبؤر الصراعات لا بد أن تتلاشى بعد أن بلغت أوجها، والتقنيات ستشهد طفرات ستحيل كل الإنجازات السابقة إلى متاحف التاريخ، ومصادر الطاقة ستتحول مع الزمن من البترول إلى مصادر أخرى بديلة إلى أن تتحول مياه البحر لطاقة قوية نظيفة ومتاحة للجميع بالمجان .
ما يهمنا أكثر هو التحولات في المناطق التي نعيش فيها .. فقد لا تصبح الكيانات الحالية هي كيانات المستقبل، وقد تتغير القناعات والآيدلوجيات التي لطالما كانت البنزين الذييلهب الصراعات وينفخ فيها ما يلهبها، وربما تحكي أجيال قادمة عنا باعتبارنا جزءا من تاريخ مشابه لما ندرسه حاليا عن الجاهلية والأندلس والدولة العباسية ودولة بني أمية .
عجلات التاريخ لن تتوقف أبدا، فما نعيشه اليوم هو التاريخ الذي سيدرسه أجيال الغد .. وكل احتقانات اليوم ستتلاشى بفعل المصالح المستجدة والقناعات الناشئة، ولا بد أن يسود العقل حين يعرف الجميع أن المخاطر لا تستثني، وأن الخير يجب أن يشمل الكل .. ليظل هذا الكل بمأمن من شرور الجينات الرابضة فيه !!
الزمن يهيئ عالم اليوم لغد لا نلم بتفاصيله، لكنه قطعا لن يشبهنا، وهذا ما يجب أن نستبشر به، بعد أن عانت منطقتنا من أسوأ ما يمكن تصوره من صراعات وآلام ومآس لم تخطر على بال بشر .
غدا يوم آخر، قد لا يعيشه الكثيرون منا .. لكنه حتما آت، فتلك هي الحياة .. وتلك هي قوانينها .
غدا هو عالم جديد متغير، لن تكون سماته كيومنا، لكن الناس قد يبقون فقط على قناعة عصيّة على التغير، وهي قناعة القوة الكامنة في الزمن .
وهكذا سيبقى بعض القليل من ملامحنا في الذين سيخلفوننا في الأرض، وستبقى أجيال المنطقة تردد مع أم كلثوم (حسيبك للزمن) .. مهما كان ما سيحدثه الزمن فيهم من انقلابات وتغيرات .
التعليقات