ترى بماذا يختلف رجل الامن الكردي الذي ضرب الشاعر والاكاديمي الكردي فرهاد بيريال امام الناس وسط اربيل عن اخر قتل بدم بارد الصحفي الراحل محمد بديوي امام المنطقة الخضراء وسط بغداد، والاهم ماذا يختلف تصرف رئيس الوزراء العراقي وقتها نوري المالكي عندما قال جملته البربرية: الدم بالدم، ولنتذكر ان القاء القبض على ضابط يعمل في احدى مؤسسات الحكومة العراقية قد استدعى ان يذهب رئيس الوزراء بنفسه، ومعه جيش جرار من الحماية ليأتي بضابط صغير؛ فباي دولة نعيش، مرة اخرى: كل هذا بماذا يختلف عن مشهد ضرب الشاعر واستاذ الجامعي الكردي العراقي؟! السلوكان ذكراني بجملة مفوض الامن عام 1994عندما زج بي في سيارة السوبر البيضاء التي قادتني، مع صديق اخر، الى مديرية الامن. كان رفيقه قد لاحظ انه لم يقيد يديّ للخلف كما فعلوا مع صديقي، فطلب منه ان يقيدني، رد المفوض: ليجرب ان يهرب وسأقتله كأي كلب! مرة اخرى بماذا تختلف هذه التصرفات عن بعض! الحق لا اختلاف مطلقا، هكذا ارى الصور الثلاث.. ثمة امر واحد اعرفه جيدا، هو ما يوحد بين السلوكيات الثلاثة، هو ان الموت، عفوا القتل واحد، وان الشقاء واحد.. ولا يغرنكم تفاصيل المشاهد الثلاثة؛ فضابط الامن الكردي العراقي لو كان على دراية وتأكد ان هناك سلطة تستند الى مؤسسات قانونية حقيقية لما ضرب الرجل بهذا القدر الملفت من الاستهتار، ولو كان عندنا دولة تعتمد المؤسسات لما اعتقلت وضربت لمجرد اني استعير الكتب من صديق يكبرني بسنوات، ثم ان السيد رئيس الوزراء العراقي لو كان يعرف انه يدير دولة لما شغل نفسه باعتقال ضابط صغير..!! والان يقول بعض الاصدقاء ان الرئيس مسعود البرزاني قد امر بالتحقيق في الحادثة، فهل كانت المؤسسات القضائية ومؤسسة الادعاء العام تنتظر ان يتفضل علينا السيد مسعود ويهبنا هذه المكرمة! ماذا يعني هذا؟ انه ببساطة يفيد امرا واحدا اننا ازاء عصابات تحكمنا، هذا هو الواقع؛ وليرضى من يرضى، وليرفض من يرفض.. ومع الاسف ان رفضه او قبوله لكلامي او كلام اي عراقي طحنه البلد طحنا لن يغير من الامر شيئا.
وقبل ان اغادر اربيل، وكنت بصحبة زوجتي في ورشة ادبية يقيمها الالمان، وتزامنت، نهايتها على الاقل، مع افتتاح معرض اربيل.. قبلها دعاني صديق كردي، طيب القلب نقي السريرة، الى الغداء في مطعم راق هناك، وكان يمتدح محافظ اربيل.. قال ان هذا المحافظ ينزل الى الاسواق ويزور الناس، وهاتفه مفتوح للناس، وهو من يجيب شخصيا على مكالمات المواطنين، فاذا فاتته مكالمة يعود لاحقا ويتصل بصاحبها. الحق سمعت الرجل، وانا اعرفه جيدا، فلما انتهى قلت له: يا ابا محمد كان صدام، كما تعلم، قد خصصا هاتفا خاصا لشكاوى المواطنين عندما كان نائب البكر، وكان يجيب بنفسه على المكالمات، وكان يتفضل على الناس ويلتقيهم بنفسه. وشخصيا اعرف شخصيات عراقية ثقافية مشهورة استعانت به لاستعادة حق مضاع، وقد انصفها صدام، لكن انظر الى خواتم الامور.. فمع الداعي لان يشغل نائب الرئيس نفسه بحل مشاكل الناس فيما لو كانت هناك مؤسسات قضائية حقيقية..! تأملني الرجل ثم هز راسه وقال: لابأس ان نمتدح الرجل مادام تصرفه جيدا..! لا ادري ما سيقول صديقنا الكردي الان....! امل ان يتفهم اصدقاؤنا الكرد هذا الكلام، مثلما اتمنى ان يتفهموا ان المنطقة واحدة، مثلما ان المستبدين متماثلين، هذا دكتاتور عربي وهذا طاغية كردي، ولا فرق.. الامر سيان؛ ففي النهاية لا قيمة لهذا الانسان. وفي هذا المجال اشدد ان قيمة اي انسان تأتي من قيمة وطنه، وليتذكر المعترضون انهم هاجروا الى بلدان غرب اوروبا لتمنحهم تلك الدولة القيمة التي لم يجدوها في دولهم، وليس فيما فعلوا عيبا يُذكر، انما الاصل في كلامي ان قيمة الانسان وكرامته تكمن في وجود نظام سياسي يقوم على مؤسسات حقيقية، وعندها لن نحتاج مطلقا لتدخل الرئيس او جماعته، انما سيكون هناك دور لمؤسسات القضاء والادعاء العام في حفظ كرامة الناس. ما حدث مع فرهاد بيريال حدث ويحدث عندنا، في المناطق العربية من العراق، ومثلما راينا الناس تتفرج على العجوز السبعيني، وهو يهان ويضرب من شاب لم يكمل، ربما، العشرين من عمره، حدث عندنا عشرات المرات وربما الاف.. ولنتذكر ان اغلب المثقفين العرب العراقيين الموجودين في اروقة معرض اربيل الان انما قد ابتلعوا السنتهم، ولم يفكروا بمقاطعة نشاطات المعرض، وهم يشكّلون الاغلبية هناك، وان فعلوها سيتوقف المعرض فورا..! وليس في كلامي ما يفيد غمزا من قناة الكرد وحياتهم، انما هو احتجاج على اهدار كرامة الناس بهذه الطريقة.
ويبقى ان اشدد ان اي محاكمة لن تعيد للعجوز كرامته التي اهدرت، انما تضامن الناس معه ضد استهتار السلطة، هو ما يجعله يستعيد ثقته بنفسه، ويدفعه لمواصلة كفاحه لأجل دولة حقيقية للكرد!

*كاتب واكاديمي من العراق