أدخلت الاحتجاجات التي اجتاحت معظم المدن الإيرانية منذ نهاية الشهر الماضي النظام الايراني في اختبار صعب لم تشهده البلاد منذ المظاهرات التي عرفت ب"الثورة الخضراء" التي أعقبت انتخاب الرئيس محمود أحمدي نجاد عام 2009.
في وقت قللت فيه السلطات الرسمية في طهران من أهمية تلك الاحتجاجات وهو ما ورد على لسان الرئيس الايراني حسن روحاني حين قال : "هذه الأحداث لا أهمية لها. والشعب الإيراني شهد الكثير منها وتجاوزها بسهولة"، واعتبر ان المتظاهرون يخربون أمن البلاد وان "المسألة باتت اليوم تمس النظام والثورة والمصالح الوطنية والأمن القومي واستقرار إيران والمنطقة" واتهم روحاني - كالعادة - الولايات المتحدة وإسرائيل بتحريض بعض المتظاهرين للانتقام من إيران.
وقد سارعت الأجهزة الأمنية الى شن حملة اعتقالات واسعة بلغت بحسب التقديرات الأخيرة قرابة اربعة آلاف شخص فيما لم تعلن السلطات الرسمية عن عددهم حيث اكتفى المسؤولون بالاشارة الى سقوط 22 قتيلا خلال تلك الاحتجاجات. وقال حميد شهرياري مساعد رئيس السلطة القضائية إنه تم التعرف على كل قادة حركة الاحتجاجات واعتقالهم وإنهم سيعاقبون عقابا شديدا وربما يواجهون عقوبة الإعدام.
وهو يعكس بشكل واضح لا لبس فيه ان سلطة الحرس الثوري لا زالت كما كانت تحكم قبضتها على الشارع بشكل "بوليسي" منذ قرابة اربعين عامًا، كما تعيد انتاج الطبقة السياسية مردِّدَةً شعاراتٍ اقل ما يُقال فيها أنها "خشبية"، ولم تنتج إلا مزيد من الازمات السياسية والعسكرية والاقتصادية منذ بزوغ "الخمينية" وحتى الآن.
انها بلا شك لحظة تاريخية حاسمة في ايران بحيث لن تكون بعد الاحتجاجات كما قبلها، وهي تُظهر بشكل واضح الرغبة العارمة لدى الشعب بالتغيير، وهو الذي يُعاني بشكل مستمر من ضغوطات حياتية اقتصادية وثقافية، ناهيك عن خيارات قياداته السياسية التي أودت بالبلاد في دائرة العزل الدولي.
لقد ضاق ذرع المواطن العاديّ البسيط بمبادئ الثورة نفسها التي عفا عليها الزمان والتي أصبحت مع مرور الوقت عبئًا على كثير من أصحابها ممن نظّروا لها وساعدوا على إنجاحها، أما المواطن المثقف النخبوي فقد أعاد النظر في كافة المبادئ تلك ولم تعد الحكومة "الاسلامية" و "ولاية الفقيه" حلم المفكر السياسي الحداثي بقدر ما أمست طروحات الهوية وما بعد العولمة هي الاشكاليات الحقيقية والتي تتطلب الانفتاح على العالم والحياة بالدرجة الأولى.
وفي وقتٍ يرى فيه المحتجون السلميون ان مصلحة ايران تكمن بالدرجة الاولى في هذا التوجه مازال التيار الرسمي من صقور العمائم السوداء يرى أن الصراع مع "الامبريالية " مازال أولى الأولويات، فيما تنظر شريحة كبيرة من ايرانيي الخارج والمنفى بحسرة كبيرة إلى ما آلت إليه أمة لعبت دورًا رياديًّا عبر العصور وقدمت للحضارة الانسانية الفنون الزاهية والآداب المميزة فانتهى المطاف بها الى الوقوع تحت غطرسة "الولي الفقيه" و "الاتشاح بالسواد" والتراث الكربلائي المأتمي !
وفيما يتعامل الاتحاد الاوروبي بحذر حيال الملف الإيراني خشية ان يؤدي فلتان الأمور إلى مزيد من حروب في المنطقة، نجد الموقف الأميركي أكثر وضوحًا بضرورة دعم الاحتجاجات، فقد اعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب أنه سيقدم دعما قويا لها، دون ان يحدد طبيعة هذا الدعم، او يفصح عما تريده واشنطن من "الربيع الإيراني"، فيما يشير المراقبون الى رفَض إدارة ترمب نصيحة وسائل إعلام أميركية بأن أفضل دعم يمكن أن تقدمه للاحتجاجات في إيران يكون عبر الصمت.
ورغم اللغة التصعيدية التي استخدمها اركان الادارة الاميركية، فإنهم ظلوا حذرين ولم يقدموا تفسيرا لطبيعة الدعم وان لوحوا بتصعيد العقوبات وتشديدها.
أما دول االمنطقة الغارقة في مشكلاتها الداخلية والخارجية والمتضرر الأكبر من سياسيات ايران التوسعية التي تحاول تصدير "الفوضى الايرانية" عبر ميليشيات ارهابية مثل "حزب الله" و "الحشد الشعبي ".. هذه الدول مرتاحة ومتفائلة من تلك الاحتاجات بيد أنها قلقة في آن معا، فحكومات تلك الدول لا يهمها احلال "الديموقراطية" في الشارع الايراني ولا الوضع الاقتصادي الداخلي ولا رفاهية الشعب، بقدر ما يهمها كفّ يد ايران عن التدخل في الدول العربية، لذلك فهي غير متسرعة في إسقاط نظام الملالي في ايران ولا مصلحة مباشرة لها في ذلك بقدر ما يهمها أداء ايران الخارجي واستراتيجيتها الأقليمة والكفّ عن مشاريعها العدوانية والتوسعية، وهي تدرك ان المنطقة لا تحتمل مزيدا من الفوضى والتدمير إنما يجب استثمار تلك الاحتجاجات في تحويل خيارات ايران الخارجية والتفاتها الى الداخل وسحب أذرعها الممتدة بشكل علني ومخفي في معظم الدول العربية.
وبين الوعود الأميركية بالدعم، وما تسعى لتحقيقه من وراء الحركة الاحتجاجية في إيران، تظل الأمور رهنا بالتطورات على الأرض، إذ يسارع النظام في طهران لاحتواء الاحتجاجات، تارة بالتصدي العنيف لها، وأخرى بتحريك الشارع المؤيد له.
وبعيدًا عن قلق الدول الكبرى التي لا تقلق في حقيقة الأمر إلا على "مصالحها " وأمنها ونفطها، فإن التساؤل الحقيقي يكمن حول ما إذا كانت الاحتجاجات ذو مطالب " اقتصادية " أم أنها ترجمة لرفض الشارع لكل خيارات المنظومة العقائدية والثقافية التي يرتكز عليها نظام ولاية الفقيه، علما ان الجناحين المسيطرين " الاصلاحي " و"المحافظ " من رحم الثورة "الخمينية" خرجا، و ما "الاصلاحي" الحالي إلا الابن الشرعي للحرس الثوري "المحافظ"، والكل يدور في فلك "ولاية الفقيه و"عصمة الامام!
روحاني الذي وعد الفقراء الانتخابات السابقة بأن يرفع البؤس والفقر عن موائدهم، عاد ليطلق لهم شعارات "العداء لأميركا" ويطرح السياسة الخارجية ويدعم الميليشيات في لبنان وسوريا واليمن والعراق ولا زال يتعاطى مع المشروع النووي كخيار استراتيجي "وجودي" وان كان على حساب الشعب الذي دفع ثمن خياراته الاستراتيجية أكثر مما يُطيق. فالسياسة "الخارجية" مقدمة على "الاصلاح الداخلي" عند كلا المحافظين والاصلاحيين على ما يبدو وان بنسب متفاوتة.
وبالتحليل الدقيق فإن مكمن الفساد الفعلي في المنظومة الخمينية برمتها هو البنية العقائدية، وعلى الرغم من أهمية الاحتجاجات، ألا أن الباحث المُدقق في خفايا الأمور المراقب لسيرورة نماء الشعوب وتطور الحضارات، يجد أن العامل المحرك للأمم هو " الأفكار والمعتقدات " وما السلوك الا أداة تعكس البنية الأيديولوجية لمحركه.
فهل مطالب المحتجين محض "حياتية " ام انها "ثقافية " تسعى للخروج من عباءة الولي الفقيه؟
هذا ما لا يمكن معرفته على وجه الدقة الآن، فإن كانت مجرد مطالب لتحسين شروط الحياة فهي مجرد "احتجاجات" يمكن امتصاص غضبها عبر منح الشعب مزيد من البحبوحة واتباع استراتيجيات للحد من الغلاء وهذا ما سيعمل النظام على تداركه عبر بعض الاصلاحات الاقتصادية الشكلية؛ أما ان كانت المطالب ثقافية تسعى لاستبدال منظومة ولاية الفقيه وتقويض اركانها فهي "ثورة فعلية" وربيع ايراني حقيقي، وفي تلك الحالة فإن نظام الملالي بكل صوره واشكاله من "محافظيين " و "اصلاحيين" سيتعاطى بجبروت ماسح مع كل اعتراض.
لذلك يجب عدم التسرع والتوقع ب"انهيار النظام" لأن نظام راديكالي عقائدي كهذا لا ينهار الا بخلخلة بنيته الفكرية وهو أمر لم تتبدى ملامح نضوجه بعد. ولكن في جميع الاحوال فإن النظام الايراني سيجد نفسه وللمرة الاولى مجبرا على اعادة النظر في الميزانيات الضخمة التي يبذلها في دعم ميليشيات خارج حدوده والتفكير بجدية في انفاق المزيد على ضروريات شعبه المحروم من ابسط شروط العيش الكريم، إذ لا يعقل ان تنفق الاموال الطائلة في حروب عبثية و تُصرف المبالغ لبناء الأضرحة المذهبّة في الداخل الايراني وخارجه فيما معظم الشعب يعيش تحت خط الفقر، كما لم تعد "الهوية الشيعية" اولوية بالنسبة للمواطن العادي ولم تعد شعارات العداء "لأمريكا " تستهويه في وقت يعاني فيه من قبضة الأمن وضيق العيش.