لنفترض جدلاً بأن التصريح الذي نُسب إلى القيادي في حزب العمال الكردستاني مراد قره يلان على راديو صوت عفرين كان من اختلاقات الاستخبارات التركية، لشرعنة الاجتياح التركي لعفرين بحجة محاربة حزب العمال الكردستاني، ومع أن جملة "سنُخرج قواتنا من عفرين بشرط الإفراج عن القائد عبدلله أوجلان" التي قيلت على لسان مَن غدا بمثابة صحّاف بغداد في قنديل، تم تكذيبها من قبل الكثير من المثقفين والنشطاء الكرد الذين اعتبروها محض افتراء وتلفيق تركي؛ ولكن مَن ذا الذي ينكر توجه أنصار وجماهير حزب الاتحاد الديمقراطي يوم الخميس في 15 من الشهر الجاريإلى ناحية جنديرس جنوب غرب عفرين، لتنظيم مسيرة حاشدة في هذه الأجواء الاستثنائية تطالب بالإفراج عن زعيم حزب العمال الكردستاني الذي يتمتع بكامل الأمن والأمان والسكينة في إحدى الجزر التركية؟ وذلك في الوقت الذي يُقتل فيه العشرات من أبناء المنطقة، ويُهجر آلاف الناس من قراها وبلداتها المحاذية للحدود مع تركيا، إما هرباً من اعتداءات الطيران التركي والقصف المدفعي، أو خوفاً من انتقام القوات المهاجمة على المنطقة.

وعلى سبيل التذكير والمقارنة أليس تصرف قيادة حزب الاتحاد الديمقراطي حين جمعها الناس في تلك الظروف الخطيرة، ودفعهم للتظاهر أوان غارات الطيران والقصف المدفعي من أجل فك أسر أوجلان، يشبه كثيراً ذهنية أنصار البعث العربي الذين فضّلوا تدمير كل سوريا لقاءَ بقاء زعيم الحزب الفاشي بشار الأسد، وذلك بقولهم "الأسد أو نحرق البلد"، وأليس وضع ما يزيد عن 460 قتيل ما بين مدني وعسكري خلال 27 يوم من الحملة التركية على عفرين وفق المرصد السوري لحقوق الإنسان جانباً، والاهتمام فقط بفك أسر الزعيم المقيم في إيمرالي؛ هو تأكيدٌ سلوكي لما جاء على لسان قره يلان بخصوص مبادلة الزعيم بكل المنطقة وما فيها من بشر وشجر وحجر، وذلك سواءً أكان ما قيلَ حقيقي أم مختلق؟

عموماً فقبل أن يرفع أحدهم عقيرته قائلاً: لماذا تنسى الطرف الآخر من المعادلة بخصوص عفرين؟ وتكتفي بتوبيخ جماعة قنديل فتحمّلهم المسؤولية وتتهمهم بالتقاعس والتقصير، نقول: أولاً لم يتدخل البارزاني يوماً بشؤون كرد سوريا لا اليوم ولا من قبل؛ وثانياً لم يفرض البارزاني عليهم أيديولوجية حزبه بالإكراه؛ وثالثاً لم يستغلهم ولا جعلهم مطايا لمشاريعه الخاصةولا رهائن قرارات تنظيمه السياسي، كما أن الرجل من اليوم الذي تنحى فيه عن سدة الحكم في الإقليم لم يعد له أية رغبة حتى بالحضور بسبب الانتكاسة التي مُني بها هو وحكومة الإقليم معاَ في 16 من شهر تشرين الأول من العام الفائت، وحيث كان لدهاقنة الأوليمب في قنديل دور في تلك الانتكاسة؛ علماً أن الرجل أعطى موقفه الرافض للعملية العسكرية ضد عفرين عبر بيانٍ مكتوب منذ بداية عدوان الجيش التركي على المنطقة بذريعة محاربة PKK.

بينما الطامة الكبرى فهي تبقى لدى جماعة قنديل الذين يرعدون ويزبدون في الأيام العادية التي لا يستدعي مناخها أصلاً كل هيصاتهم الترعيدية، إذ في الأوقات التي يكون فيها العالم ينعم بالهدوء والسكينة والوئام، يعملون على تعكير الأجواء حينها بتصريحاتهم الخلبية، ويعملون على آلية جذبالجماهير إليهم كل فترة ببعض الشعارات والبالونات اللفظية لئلا تنقطع صلات التواصل الأيديولوجي مع العامة، حيث اقتصرت رسائلهم الأيديولوجية فيما مضى على وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، ولكنهم في عز الحاجة الجماهيرية إليهم دخلوا في سباتهم الشتوي، ولم يخرجوا من كهوف الاسترخاء لحد اليوم، لا بموقفٍ نبيل، ولا ببيانٍ محترم، ولا بتصريحٍ صاروخي على غرار تصريحاتهم أوان السلم، بل ووقت حاجة جمهورهم إليهم لم يعد لهم لا حس ولا خبر، وغدا وضعهم بالنسبة لمن يأمل منهم خيرا وقت الحاجة الماسة إليهم، كوضع رجلٍ ريفيٍّ كان يُحضّر بدنه ليوم الزفاف وراح يُكثر من كرع العقاقير الطبيعية والمقويات ويتناول المكسرات، ويأتي بكل ما قد يفيده بليلة عرسه، وغدا تعامله مع بدنه كمن يعتني بسيفه يومياَ، فيحافظ عليه بعيداً عن الرطوبة، ويسنه باستمرار حتى لا يخيب الظن أوان الغارات وحين الدخول في قلب المعارك، ولكنه عند اصطدام الجيوش، وعند دخوله القفص سكتَ عن الفعل المباح، وصار حاله كحال كبشٍ وقع بين قطيعٍ من الماشية في فصل التلاقح، ولكن الكبش كان قد فقد كل أسباب الفحولة دفعةً واحدة، وهذه النتيجة استشفها فيما يتعلق بوضع عفرين كل من كان يعوّل ويرتجي غيثاً من جماعة قنديل ودعمهم السماوي اللامحدود، إذ لم تستطع تلك القيادة أن تُفرح أسارير جماهيرها حتى ولو ببيع بعض التهديدات على الهواء كما كان حالهم أوقات الهدوء والأمان.

ولعل كل متابِع لما يجري منذ ما يقارب الشهر في تلك المنطقة التي غدت رهينة أيديولجيتهم منذ سنوات، ومن يقرأ بإمعان تاريخ نضالهم المسلح، وكيف أن معظم أنشطتهم العسكرية في كردستان تركيا وكل تحركاتهم السابقة لم تكن إلاّ عبارة عن حجج مهداة على طبقٍ من ذهب للجيش التركي حتى يدمر كل المدن والبلدات الكردية؛ باعتبار أن ظهورهم في أوقاتٍ معينه، وغيابهم الكلي في أوقات أخرى، يدفع المعنيين بشأن القضية الكردية إلى الشك بكنه نضالهم، وهو ما يدفع المشككين إلى طرح ثلاثة احتمالات جوهرية، ويبنوا من خلالها الرأي بمجمل تحركاتهم في السنوات السابقة مع مقارنتها بما يجري في عفرين الآن وبالتالي القول:

أولاً إما أن تلك القوة المركونة بين تلك الجبال هي مجرد قوة معنوية، وظاهرى صوتية لا قدرة لها على فعل أي شيء على أرض الواقع، وأنها وجدت فقط لإدامة عمر أيديولوجيتها، وما عليها إلاّ إطلاق بعض المناطيد والفلاشات السياسية بين فينةٍ وأخرى، أو كلما داهمهم الشعور ببرودة عواطف الدهماء تجاه مشروعهم الهلامي، وبالتالي يقتصر شغل تلك القيادة على إطلاق التصريحات النارية وقت السلم فقط، وأن تلك القيادة الماكثة هناك لا تستطيع أن تفعل أي شيء مع الأنظمة التي تدّعي محاربتها، ولكنها تحاول الحفاظ على نفسها من خلال بضعة تصريحات أو بث بعض الملفوظات أو نشر مقابلاتٍ صحفية حتى لا يقتلهاالنسيان على سفوح تلك الجبال.

وثانياً هو أن تلك المنظومة تعاني أصلاً من علة المستبد الخنوع، أي أنها ترضخ وتتنازل بكل يسر لأعداء الكرد من الأنظمة الغاصبة لكردستان، ولكنها تمارس كامل جبروتها على أبناء جلدتهم أينما وجدوا في أجزاء كردستان أو خارجها، وإظهار تنمرهم مقتصرٌ فقط على اخوتهم الأعداء، وفي مقدمتهم الحزب الديمقراطي الكردستاني عامةً وآل البارزاني بوجهٍ خاص، وبالتالي العمل فقط في ميدان إزعاج إخوانهم، أو الاستحواذ على مكتسبات أي فصيل كردستاني آخر، تعويلاً على جماهيريتهم وعماء الدهماء التابعين لهم، وقدرتهم على سوقهم متى ما أرادوا ذلك، كاستعراضاتهم الأخيرة في شنكال مع الحشد الشعبي الشيعي، وكذلك في شوارع كركوك مع رهط بافل طالباني، والترويج حينها للأيديولوجية فحسب، وعن أنهم لوحدهم مَن بمقدورهم الدفاع عن بابا كركر، وذلك قبل أن تتبخر قواتهم كالوطاويط بأوامر من مرجعيتهم التي تشير أغلب الإحداثيات بأنها شيعية صرفة.

والاحتمال الثالث يبقى الأشد خطورةً ومرارة، وهو أن تلك القيادة لا تزال على اتصال مباشر ليس مع ساسة المنطقة وفي العلن كما هو الأصول، وكما على أي حزب سياسي أن يفعل بدون حرجٍ أو خجل، إنما في حصر علاقتهم مع مخابرات الأنظمة التي يقولون بأنهم يحاربونها وتحاربهم، وحصر العلاقة مع المخابرات يعني بقاؤهم أدوات بأيدي تلك الأجهزة كحال معظم الأحزاب الإسلامية في الشرق، ويعني أيضاً بأن المطلوب منهم هو الوقوف بوجه أي حزب، أو حركة كردية أخرى تريد العمل على خلاص الشعب الكردي من طغيان الأنظمة، ومحاربة كل مَن يعمل على تحقيق مطالب الشعب سواء بالوسائل السلمية أو العسكرية؛ وتالياً توصل المعني بشأن القضية إلى استنتاجٍ مفاده أن العملية العسكرية التي تقوم بها تركيا ضد عفرين حالياً كانت بموافقتهم كما هي بموافقة نظامي الأسد وإيران، وذلك بهدف إرجاع الكرد مجدداً إلى نقطة الصفر من جهة، ومن جهةٍ أخرى الحفاظ على ماء وجه تلك الأيديولوجيا على حساب تدمير المنطقة برمتها؛ وفي هذا الإطار يقول بعضهم لو لم يكن الأمر كذلك لكانوا حركوا جماهيرهم في كل مكان يتواجدون فيه وخاصةً تركيا، باعتبار أن تلك الجماهير كانت تتحرك بأمرٍ مباشر منهم لأتفه الأسباب وأبيخها طوال الفترات الماضية، بينما الآن تُدمّر منطقة بأكملها فلا يحركون أي ساكن لأجلها! ما يعني بأن مهمتهم الأساس هي وضع الحجة بيد الأنظمة لتدمير المناطق الكردية أينما كانت، كما فعلوا سابقاً وقدموا كل المبررات للجيش التركي حتى يدمر عشرات المدن والقرى الكردية في تركيا، ويضيف آخر لو لم يكن الأمر كذلك لكانوا قد غيروا من أساليبهم النضالية المتخلفة، وكفوا عن إعطاء الحجج لأعداء الكرد في الجهات الأربع، كما يُفهم من صمتهم المطبق حيال عفرين بأن دهاقنة الأوليمب في قنديل بعد تدمير كوباني وعفرين قد يعمدون لاحقاً على نقل التجربة التدميرية إلى بقع كردية أخرى؛ وبالتالي محاربة أي مكسب كردي أينما كان، وعرقلة أي تقدم أو نشاط كردي حقيقي في أية بقعة كانت،إما من خلال الوقوف بوجهه، أو عبر تحوير مسارهجملةً وتفصيلا، كما فعل ويفعل الإسلاميون المتشددون في سوريا وفي مجمل دول الربيع العربي، وكما فعلها من قبل الاسلاميون بعقود في دولة إيران؛ وثمة تصورات كثيرة عن أن حالهم مع الأنظمة الإقليمية هوتماماً كحال الحركات الراديكالية التي تُساق من قبل ذات الأنظمة التي يقولون بأنهم يعادونها، أي أن على تلك الحركات الأصولية أن تتولى سوق الدهماء صوب المضارب التي تريدها نفسالأنظمة التي يدّعون محاربتها