بعد أن نجح الحزب الشيوعي الروسي في الإنقلاب على السلطة في أكتوبر عام 1917 ، رفع هذا الحزب شعار وحدة الطبقة العاملة ، وتحول الى حزب أممي يسعى لتكريس سلطة الطبقة العاملة بجميع أنحاء العالم . وسرعان ما تأسست فروع لهذا الحزب في عدة دول ، منها الدول العربية التي نشأت فيها تدريجيا أحزاب شيوعية موالية لروسيا، ومنها العراق . وكانت هذه الفروع تعتبر الحزب الشيوعي بالاتحاد السوفيتي هو الملهم والنصير لنضال الطبقة العاملة ، وربطت نفسها بالآيديولوجية الأممية وبالتوجيهات الصادرة من المركز الرئيسي بموسكو. حتى راجت وقتها نكات طريفة بالنسبة للحزب الشيوعي العراقي، حين تندر العراقيون بذيلية الحزب الشيوعي العراقي قائلين " أن شيوعيو العراق يرتدون المعاطف السميكة في عز الصيف بالعراق على إعتبار الطقس في موسكو ماطر وبارد" !..
وحين تأسس حزب البعث العربي الإشتراكي في سوريا على يد مشيل عفلق ورفاقه ، سرعان ما تم فتح فروع له في بعض البلدان العربية ، منها العراق ، ثم لبنان واليمن والسودان وبلدان أخرى ، ونجح هذا الحزب في تنفيذ إنقلابين بكل من سوريا والعراق في بداية الستينات ، وكاد أن يقود إنقلابا آخر في السودان لكنه أخفق ، وأعتقد بأنه مازالت هناك بقايا لهذه الفروع في بعض البلدان حاليا وتحت مسميات متعددة.
وفي مصر بعد نجاح ثورة يوليو بقيادة جمال عبدالناصر ، إنتعشت آمال القومية العربية وأصبحت الناصرية آيديولوجية قومية يلتزم بها بعض القوى السياسية العربية ، ومازالت هذه الآيديولوجية موجودة على الساحة السياسة العربية وتمارس دورها في إطار الدولة.
حين تأسس الحزب الشيوعي في العراق بالأربعينيات ، لم تلجأ السلطة الملكية حينذاك الى تصفية أعضائه على إعتبار أنهم عملاء لموسكو أو مرتبطون بأجندات خارجية ، صحيح أن بعض قيادات الحزب حوكموا وقسم منهم أعدموا، لكن الدولة لم تشن الحرب على تنظيماته بحجة موالاتها لموسكو ، بل على العكس أجيز هذا الحزب بشكل رسمي من قبل الدولة ، بل وساهم أيضا في قيادة الدولة أثناء حكم عبدالكريم قاسم.
وحين جاء حزب البعث الى العراق ، شارك ممثليه في السلطة وتبوؤا وزارات ومناصب رفيعة بالدولة وتمتع أعضائه بحرية العمل السياسي بإجازة من الحكومة ، ثم تمكنوا من الوصول الى السلطة في إنقلاب 8 شباط 1963 ، ولم تلاحقهم السلطات الجمهورية على اعتبار أنهم موالون لحزب عفلق في سوريا . وهكذا الحال في البلدان الأخرى التي تأسست فيها فروع البعث مثل لبنان واليمن والسودان . ومنذ وفاة عبدالناصر لم تلاحق السلطات المصرية التنظيم الناصري، بل تمتع هذا التنظيم بالحرية والإحترام لدى السلطة والشعب ، ومازال الناصريون يسيطرون على جزء من المشهد السياسي بهذا البلد .
اذن، مسألة الموالاة والإنتماء الآيديولوجي ، هي مسألة عادية وليست تبريرا للإضطهاد والقمع وشن الحروب الخارجية ، فهناك حتى أحزاب إسلامية سلفية تدين بآيدولوجيات تعود الى عشرات القرون ولا حرج في ذلك . السؤال هو " لماذا يشن أردوغان ومن قبله حكام تركيا هذه الحرب الشعواء ضد فروع حزب العمال الكردستاني أو الموالين لآيديولوجيته بذريعة حماية الأمن القومي لتركيا ، كما يتجلى ذلك بوضوح في الحرب الدائرة حاليا بمدينة عفرين ؟ . لنفترض بأن الحزب الأم يشكل تهديدا على الأمن القومي التركي بالداخل، فلماذا تلاحق السلطة التركية الأحزاب الأخرى خارج حدودها بذريعة تهديدها للأمن القومي التركي ؟. وكيف تجيز تركيا لنفسها أن تنتهك سيادة الدول المجاورة لها و تقتحم بعساكرها مقرات هذه الأحزاب وتبيدهم تحت هذه الذريعة ؟.
حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي تأسس على خلفية الثورة الشعبية داخل سوريا ، وقبله تأسس حزب الحياة الحرة الجديدة في الجانب الإيراني ، وهما حزبان لانستطيع أن نخفي موالاتهما بل وحتى كونهما فرعين لحزب العمال الكردستاني ، ولكن هل حدث يوما أن هاجم مقاتلو هذين الحزبين ولو على مخفر حدودي للسلطة التركية ؟. أقول جازما بأنه لم يحدث شيء من هذا القبيل ، فلم يشكلوا هؤلاء يوما أي تهديد لتركيا وأمنها القومي. اذن ما الذي يجعل تركيا تداهم مقراتهم وتسعى الى إبادتهم تحت ذريعة أنهم قد يشكلون تهديدا على أمنها القومي؟.
حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري ينحصر نشاطه السياسي داخل سوريا ، ونشاطه العسكري موجه ضد المنظمات الإرهابية نيابة عن السلطة المركزية بسوريا وبالنيابة أيضا عن المجتمع الدولي ، وقدم مئات الشهداء على هذا الطريق . أما حزب الحياة الحرة فهو بدوره يحصر نشاطه داخل إيران، ولم يعتد مرة على أي معسكر أو مخفر تركي وهو يتواجد على الحدود القريبة من إيران وليس على حدود تركيا. الغريب أن تعتبر تركيا هذين الحزبين تهديدا على أمنها القومي، ولا تعتبر المنظمات الإرهابية المتطرفة كالقاعدة وداعش والنصرة تهديدا موازيا ! . يبدو أن هناك شيئا ما يدفع تركيا لتتعامل بهذه الإزدواجية مع القوى الموجودة على الساحة الإقليمية .
حين تجمهر الآلاف من معارضي صدام حسين داخل الأراضي السورية المحاذية للعراق ، وقاموا بنشاطات سياسية متعددة هددت كيان هذا النظام الدكتاتوري في العراق ، فإن صداما برغم دكتاتوريته ودمويته لم يجز لنفسه أن يرسل طائراته أو مدافعه لقصف مقرات هذه الأحزاب داخل المدن السورية رغم أنه كان في حالة حرب معلنة مع النظام السوري !
أعتقد بأن السياسة التركية التي يعتمدها قادتها منذ ظهور حزب العمال الكردستاني في تركيا منتصف الثمانينيات تركز فقط على العامل الإنتخابي بهذه المجال. فعلى عادة بعض رؤوساء الدول الذين يوظفون حروبهم الخارجية لعوامل إنتخابية ، فإن قادة تركيا يستغلون هذه المواجهة المستمرة مع حزب العمال الكردستاني لتحسين ظروفهم الانتخابية ، وقد لاحظنا بأن مثل هذه المواجهات تحتدم عادة في السنوات الإنتخابية ، وإستفادت منها الأحزاب التركية مرارا عبر السنوات الماضية ، وهذه المواجهات إن كانت في السابق تحظى بنوع من القبول على المستوى الدولي بذريعة حق تركيا في الدفاع عن أمنها القومي، فإن هذه السياسة أصبحت غير مقبولة في هذا العصر الذي تنبذ فيه الشعوب الحروب والصراعات الدموية التي أنهكت العالم ، خصوصا وأن معظم النظم السياسية في العالم تتجه حاليا نحو إشاعة الديمقراطية بدل التناحر والصراع السياسي والقومي ، ولكن تركيا تضطهد حتى الأحزاب الكردية التي لا تتبنى الكفاح المسلح فتمنعها من خوض الصراع السياسي بدل الصراع المسلح ، وهذا في وقت تتنعم فيه الأحزاب القومية التركية المتطرفة بكل أشكال الدعم من الدولة التركية. فعلى سبيل المثال حزب الشعوب الكردي نال في الإنتخابات البرلمانية أكثر من ثمانين مقعدا ولكن أردوغان منع نشاطه السياسي وزج بآلاف من أعضائه في السجون والمعتقلات بتهم باطلة تنحصر بالعمل ضد الجمهورية . بل أن أردوغان يحارب حتى حركة فتح الله غولن التركية وهي حركة سياسية داخلية وليست إرهابية. إذن أردوغان حاله حال أي دكتاتور في المنطقة همه الوحيد هو خوض الحروب ضد الديمقراطية وإظهار نفسه كبطل قومي ليستحوذ على مشاعر ناخبيه ، وإلا فليس هناك أية حاجة للتذرع بفزاعة الأمن القومي الذي لايهدده سوى أردوغان نفسه بمغامراته الطائشة والتي ستودي أخيرا به وبحزبه العنصري الحاقد وترميهما بمزبلة التاريخ .
التعليقات