لا تعرف فرنسا فقط بتعدد وبكثرة أجبانها ، وإنما تعرف بكثرة دساتيرها المتعاقبة وتبدل حكوماتها المتتالية، فرسمياً هنالك ( 2824 ) نوعا مسجلاً من الجبن في فرنسا ، ومنذ سقوط سجن الباستيل عام 1789 ظهر لها أكثر من خمسة عشر دستوراً، والنظام السياسي في فرنسا هو نظام جمهوري ديمقراطي يتقاسم صناعة القرار داخله كل من مؤسستي الرئاسة والبرلمان الذي تنبثق الحكومة من الأغلبية الموجودة فيه وإن لم تكن موالية لرئيس الجمهورية وهو ما يعطي النظام الفرنسي نوعاً من الشفافية والديمقراطية في الحكم .

وعند دراسة طبيعة وخصائص النظام السياسي لا بد من الانتباه إلى أن فرنسا دولة لها تأريخ قديم في الاستعمار استمر إلى جانب الاستعمار البريطاني في السيطرة على مقادير شعوب ودول عديدة في العالم لكن الذي ميز الاستعمار الفرنسي أنه كان الأكثر دموية في تثبيت هيمنته البغيضة وكان كذلك الأشرس بمحاولة فرضه للثقافة واللغة الفرنسيتين على الشعوب التي استعمرها طويلاً وفي نفس الوقت تجرع الفرنسيون أيضاً طعم الاستعمار الأجنبي لبلدهم وشعروا كثيراً بالذل والهزيمة إلا أن الملامح المهمة في الانتماء الحضاري لفرنسا هي في طريقة تشكيل الدولة الفرنسية وقراءة طبيعة تكوين الشعب الفرنسي الذي كانت ثورته الشعبية التي اندلعت شرارتها عام 1789 م سبباً في تحول فرنسا من الملكية إلى الجمهورية في عام 1892 م والملمح المهم في تشكل الرؤية الحضارية لفرنسا هو ميل الفرنسيين إلى الرغبة في التغيير والانتقال السياسي والاجتماعي بين مرحلة وأخرى إضافة إلى هذا التمسك القوي باللغة الفرنسية إلى حد التعصب لها من دون السعي الحقيقي إلى نشرها في الوقت الراهن.

وتعرفت فرنسا في تأريخها إلى أكثر من ( 140 ) وزارة تشكلت وحكمت منذ الجمهورية الثالثة وهذا التنوع في غذاء شعبها بجانب التنوع في حكوماتها يصلح أن يكون دليلاً ومفتاحاً لمعرفة السمة الثقافية التي تحيط بالنظام السياسي الفرنسي.

ففرنسا منذ قرنين عرفت الثورة وعرفت الأزمات وخاضت رحى الحروب باسم التحرر تارة ، ولغرض التوسع والاستعمار تارة أخرى.

وعاشت سنوات العظمة كدولة كبرى، وخضعت كما خضعت دول أوربية أخرى لسيطرة واحتلال دولة أوربية لها .

فهي غنية بتراثها وإبداعاتها على مر العصور ، ولكنها تشعر بوطأة الذل والانحسار الذي أصابها جراء الحرب العالمية الثانية فقد احتلت فرنسا واقتطعت أجزاء منها ، وسلبت إرادتها كما سلبت هي إرادة شعوب عديدة حكمتها بفرض النظام الإمبراطوري عليها، إلا أن النظام الإمبراطوري لم يكن النظام الوحيد الذي ساد منذ قيامها إذ عرفت وخبرت أنظمة متعددة .

وهذه الأنظمة جاءت لتؤطر الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية لفرنسا.. وجاء النظام السياسي بدوره ليقوم كناظم للمحيط المتنوع والمتعدد ، متنوع في آرائه وأفكاره ومتعدد بأصنافه وطبقاته التي تكون منها المجتمع الفرنسي والذي بدأ في كتابات العديد من الفرنسيين قد يبرز صفة على أخرى إلا أنهم يتفقون على وجود بنى معينة يتصف بها المجتمع الفرنسي ، وهذه البنى تحدد إلى حد ما مسار النظام السياسي ومعرفتها ضرورية خاصة لرجل السياسة والمحلل ، إذ بمعرفتها يستطيع رجل السياسة والمحلل أن يتعرف على أهداف ومطامح وسلوك المجتمع ككل ، أو يتعرف على سلوك قسم من المجتمع.. وهذا لا يعني بأن هذه البنى وسماتها هي ثابتة ، بل إنها قابلة للتغير ولكن طابع الاستقرار البنيوي يتسم بثبات نسبي ولا يبدو التغيير مقبولاً إلا على تعاقب عدة أجيال أو عند حصول نقلات نوعية على هذه البنى ، وهذا لا يحصل إلا لأسباب مؤثرة قوية تحدث إما لأسباب داخلية ، حصول ثورة مثلا أو خارجية بسبب الحرب .

وهذان السببان يكونان متداخلين لبنية مجتمع ما ، وهذا ما لوحظ بالنسبة لفرنسا خاصة ، فأن قيام الثورة عام 1789 م قد فتح عهداً جديداً لمؤسساتها ودخول فرنسا للحرب الأولى والثانية قد أدخل فرنسا في عالم آخر زاخر بالتطورات السريعة المؤثرة على بنيتها السياسية.

[email protected]