في هذه الأ وقات التي استعرت فيها النزعات الشعبوية واليمينية المتطرفة، وبات البعض من المنظرين لها، والمدافعين عنها يحتلون مناصب هامة في البعض من الدول الأوروبية، نشر الكاتب الفرنسي ج.م. لوكليزيو الحائز على جائزة نوبل للآداب نصا في الأسبوعية الفرنسية"لوبس" ،واسعة الإنتشار في عددها الصادر في الأسبوع الثاني من شهر جانفي-يناير من العام الحالي، مقالا إنتقد فيه بشدة سياسة فرنسا في مجال الهجرة واللجوء.وفي بداية هذا المقال الذي حمل عنوان"جحود إنسانيّ لا يحتمل"، كتب صاحب رائعة" صحراء" يقول : » الوصفة الشهيرة لميشال روكار(وزير أول اشتراكي سابق) التي يقول فيها بإن ّفرنسا لا يمكنها أن تستقبل كلّ بؤس العالم" -وهي وصفة استعادها مؤخرا الرئيس ماكرون لكي يبرّرَ سياسة الشدة والصرامة تجاه المهاجرين الإقتصاديين- هي قبل كلّ شيء مُقْفرة من أيّ مدلول ومن أيّ معنى إذا ما نحن فكرنا في نسبة المهاجرين في بلدان صغيرة مثل لبنان أو الأردن. وهي بالخصوص جحود إنساني لا يحتمل. كيف يمكننا أن نقوم بعملية الفرز؟ كيف يمكنننا أن نميّز بين الذين يستحقون اللجوء لأسباب سياسية، وبين الذين لا يستحقون ذلك؟ وكيف يمكننا أن نرسم خطا بين طالبي اللجوء بسبب المخاطر التي تتهددهم في بلدانهم، وبين الذين يفرّون من بلدانهم لأسباب اقتصادية؟ وهل الموت بسبب الجوع والإهمال وضيق الحال أقل من الموت تحت ضربات طاغية من الطغاة؟ أوليس هؤلاء الطغاة الذين طالما ساعدتهم فرنسا، ودللتهم، وفتحت لهم أبواب حدودها عندما أجبروا على الفرار من بلدانهم بسبب انقلاب عسكريّ أطاح بنظام حكمهم، هم الذين يهددون حياة مواطنيهم الأشد فقرا ؟ وهل لا تكون لفرنسا أدنى مسؤولية في النظام الذي استغلته لصالحها، والذي لا تزال تستغله إلى حد هذه الساعة؟"
ويقول لوكليزيو بإن كل المبررات التي تستند إليها الحكومة الفرنسية للدفاع عن سياستها غير مقبولة. فهي لا يمكنها مثلا أن تنفي أن فرنسا دولة غنية ، تتمتع بإمكانيّات هائلة في المجال التكنولوجي، وبطقس معتدل، وبسلم إجتماعي رائع. لذا بإمكانها أن تضحي بشيء من ثرواتها لكي يستفيد منها من هم في حاجة إلى كسب لقمة عيشهم، واستعادة قواهم، وتمكين أطفالهم من مستقبل أفضل، ومداوة جراحهم، وكسب الأمل مجددا. ويكتب لوكليزيو قائلا:»كيف يمكن إقناعنا بأن هؤلاء الذين يلقون بأنفسهم في الطرقات، ويقطعون الصحاري، ويحشرون أنفسهم في مراكب الموت، ويجتازون الجبال في عز الشتاء، وليس على اجسادهم سوى ملابس البلدان الحارة، لهم خيار؟ وكيف لا لا نفهم أن الطريق الذي هم سلكوه هو تمزق، بعد أن تركوا خلفهم كلّ ما هو عزيز، وكلّ ما هو إنساني، الوطن، والأجداد، وأحيانا الأطفال الذين لم يتمكنوا من السفر بسبب صغر سنهم؟"
ويشير لوكليزيو أنه عرف هو أيضا محنة الهجرة، وبأوجاعها اكتوى. ففي صباه قطع فرنسا برفقة والدته وأخية وجديه بحثا عن مأمن يقيهم ويلات الحرب الكونية الثانية. وعلى مدى سنوات الحرب المريرة، عرفت عائلته الجوع والخصاصة.وكان هناك كثيرون مثلهم إلاّ أنهم لم يكونوا طالبي لجوء، بل فارين فقط من أهوال الحرب. ويقول لوكليزيو بإن السياسة وحش بارد، و هي تّمارس عملها بحسب قوانين وتعاليم لا تأخذ المشاعر الإنسانية بعين الإعتبار. لذلك يأمر السياسيون رجال الشرطة بممارسة شتى أنواع القهر والإذلال ضد المهاجرين . فكما لو أنهم كلاب سائبة.وينصح لوكليزيو الفرنسيين والأوروبيين بأن لا يقيموا في أذهانهم مع الآخرين ،وتحديدا مع المهاجرين، حدودا أشد قسوة من الحدود السياسية،وأن يجنبوا أنفسهم فكرة العيش في جزيرة تحميها الأسوار العالية من "الهمج والرعاع والجياع". كما يتوجب عليهم ألآّ يكونوا بمكا صما أمام ما يحدث من حولهم من كوارث ومن مجاعات ومن حروب مدمرة إذ أن التاريخ يقدم بالدليل القاطع أن أعتى الإمبراطوريات سقطت بسبب المظالم التي سلطتها على الشعوب.التي هيمنت عليها. ويختم لوكليزيو مقاله قائلا : » لا يزال هناك وقت لنتصرف بحسب ما يقتضيه الواقع : يكفي أن نقلب المعادلة وأن نكف عن التصرف تحت الشعور بالتهديد والخطر.والإقتسام ليس فقط الإستقبال. إ نه أيضا بناء المستقبل،أي مساندة التغيير. ولتساهم الميزانية الخارقة التي تمول آلة الحرب عبر العالم بجزء بسيط، بل بفتاة لمساعدة مواطتي البلدان التي تعيش تحت وطأة الضيق ، ولتوفير الماء الشروب، والتعليم، والصحة ، وإقامة المصانع، والتوازن، والعدالة" .
التعليقات