الأحزاب الكردية
في الأجزاء السابقة من البحث، أوضحنا كيف وقعت ظاهرة التنوع ( الديني ،القومي ،العرقي ،الثقافي ،اللغوي)، التي يتصف بها المجتمع السوري، ضحية السياسات العنصرية والاجندات والمشاريع القومية والطائفية للقوى العربية والاسلامية . كما توقفنا عند السياسات الشيوفينية لـ(حزب البعث العربي الاشتراكي) الحاكم، القائمة على تجاهل قضية الاقليات، واهماً بأن طمسها ونفي وجودها و رفض الاعتراف بها، نهج كفيل بوأدها والتخلص منها. المحاذير التي فرضها الاستبداد على (ملف الأقليات)، حول ظاهرة (التعددية والتنوع) من عامل (قوة وغنى وطني وثراء حضاري) الى "نار تحت الرماد"، سرعان ما اشتعلت على هامش حرب (داخلية خارجية) تعصف بالبلاد منذ سنوات، كادت أن تفرق ما جمعه التاريخ ووحدته الجغرافية، من شعوب وأقوام وملل عريقة، على الارض السورية.
كان المنتظر أن تقدم ( الأحزاب الكردية) ،وهي عانت الكثير من استبداد وطغيان القومية العربية الغالبة الحاكمة، مقاربة واقعية وموضوعية لـ(مسالة الاقليات والتعددية) في البلاد، تؤسس لحل وطني ديمقراطي حقيقي لهذه المعضلة المزمنة. لكن هذا لم يحصل. سنوات ما سمي بـ"بربيع دمشق"،السنوات الأولى من عهد بشار الأسد (ورث السلطة عن والده تموز 2000 ) انفتحت القوى الكردية على المعارضات السورية ، يومها المعارض (ميشيل كيلو)، طلب من قيادات حزبية كردية أن تقدم ما لديها من (برنامج سياسي)ورؤية مستقبلية لحل المشكلة الكردية ومشكلة الأقليات عموماً في سوريا. سنوات طويلة مضت والسيد كيلو مازال ينتظر من غير أن تستجيب القوى الكردية لطلبه، لأن ليس لديها ما تقدمه. حقيقة ، الحركة الكردية في سوريا ،غير معنية بحل (مشكلة الاقليات) إلا بقدر ما يخدم هذا الحل ويحقق تطلعاتها وأحلامها القومية. حتى "الفدرالية" أو "اللامركزية" بالصيغة التي تطرحها القوى الكردية لسوريا الجديدة، تندرج في اطار إحقاق مشروعها القومي أكثر من كونها (رؤية وطنية) لحل معضلة الأقلياتوالتعددية في البلاد. (الحركة الكردية) سعت وتسعى لاختزال (مسالة الاقليات) في سوريا بـ(المسألة الكردية) وحدها وتهميش قضايا وحقوق باقي المكونات.لا نقول هذا تحاملاً ، وإنما هي الحقيقة الواضحة المتجلية في الخطاب القومي الكردي، خاصة "الخطاب الداخلي" المتسم بالغلو القومي ، كذلك فيالأدبيات السياسية الكردية. رصدنا البيانات الختامية لأحزاب كردية بارزة عقدت مؤتمراتها العامة فترة الأزمة السورية الراهنة، مؤتمر(حزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا) تشرين الثاني 2015- المؤتمر التأسيس الأول لـ(التحالف الوطني الكردي في سوريا) في مدينة عامودا، فبراير 2016- مؤتمر(حزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سوريا- يكيتي ) آذار 2016- مؤتمر(الاتحاد الليبرالي الكردستاني) تشرين الثاني 2016 - مؤتمر(حزب الاتحاد الوطني الحر – روج افا/ شمال سوريا)شباط 2017. البيانات الختامية لهذه الأحزاب الكردية، تجاهلت وعن عمد ذكر القوميات الأخرى ، رغم مشاركة وفود من أحزاب سريانية آشورية في جلسات افتتاح مؤتمراتها. كيف لهذهالأحزاب أن تطالب بإنصاف القوميات الأخرى، وهي تستكثر عليها ذكرها في بيانتها وادبياتها السياسية. طرح الأكراد خريطة لما يزعمون بأنها" كردستان الكبرى أو التاريخية" تمتد وتتعرج صعوداً وهبوطاً ، شمالاً وجنوباً، لتصل آخر منزل كردي في الجغرافية السياسية للمنطقة ، تؤكد على أن ثمة "مشروعاً قومياً امبراطورياً كردياً" يوازي" المشروع القومي الامبراطوري العربي ". مما يعني، إذا ما أتيحت للقوى الكردية فرصة الحكم والسيطرة وبناء "دولةكردية"، هي ستكرر وتستنسخ "التجربة الحمقاء" للقوميين العرب في تعاطيهم مع القضايا الوطنية ومع حقوق الآخرين. الكاتب اللبناني (حازم صاغية) في مقال له ، حذر الأكراد من خطر المبالغة في تطلعاتهم القومية يقول: " أعتقد أنّ الخيار الأفضل للكرد هو التركيز على حقوق تقرير المصير في بلدانهم، والتركيز على ذلك بوصفه مطلباً عادلاً، لا بوصفه ثأراً وانتقاماً. أمّا أوهام كردستان الكبرى، العابرة لشعوب واقتصادات وثقافات ونظم تعليم مختلفة، فستكون كارثة على الكرد مثلما كانت أوهام العروبة كارثة على العرب".
ونحن نتناول رؤية الأكراد السوريين لمسالة الأقليات في البلاد، مفيدٌ أن نتوقف عند تجربة ما يسمى بـ" الادارة الذاتية الديمقراطية" التي اعلنها (حزب الاتحاد الديمقراطي)الكردي بداية عام 2014 في المناطق التي سيطرت عليها ميليشياته بعد أن أخلاها النظام ، مع تصاعد واتساع حركة الاحتجاجات الشعبية المناهضة لحكم الأسد. القائمون على هذه الادارة، يتحدثون وكأنهم ابدعوا "نموذجاً" مثالياً في التعاطي مع ظاهرة (التعددية والتنوع) في المجتمع وفي معالجة مشكلة الأقليات ،برفعهم شعار "أخوة الشعوب والأمم الديمقراطية ". فيما الحقيقة أنهم، وعلى مدى اربع سنوات من عمر إدارتهم الذاتية، اخفقوا في كسب ثقة الغالبية الساحقة من أكرادهم ، فكيف بهم أن ينالوا ثقة وتأييد الآخرين من غير الكرد. هذا واضح من خلال بروز معارضة كردية قوية لنهج "الادارة الذاتية" ، المحكومة وبشكل مطلق بعقلية "الحزب القائد" من قبل راعيها(حزب الاتحاد الديمقراطي) الكردي.تطعيم (هيئات وهياكل ومجالس ومنظمات) الادارة الذاتية، بعناصر آشورية (سريانية/كلدانية) و ارمنية وعربية، ممن يبحثون عن باب للارتزاق أو عن الوجاهة، لا تعني بالضرورة وجود حالة ديمقراطية وعدالة وتوازن في توزيع السلطات والصلاحيات داخل "الادارة الذاتية" . هذه العناصر الغير كردية هي للاستثمار السياسي والاعلامي في الداخل والخارج. يبقى الأهم من كل هذا ، أن "الادارة الذاتية"، لم تأت في إطار (مشروع وطني ديمقراطي) لسوريا الجديدة. إنما هي مجرد "سلطة أمر واقع"، افرزتها ظروف الحرب وانحسار سلطة الدولة. وهي بالمحصلة" إدارة كردية" ، تندرج في اطار التطلعات والأحلام القومية لأكراد سوريا والمنطقة، ولم تكن خيار بقية مكونات الجزيرة السورية والمجتمع السوري.
أخيراً: اصرار الأخوة الكرد السوريين على أن ثمة "اراض سورية" هي جزء من "كردستان" إنما يضعون عقبات وعراقيل في طريق إجاد حلول وطنية ديمقراطية عادلة ممكنة لـ"المسالة الكردية" ولـ "مسالة الاقليات" عموماً ، في البلاد ...
في الجزء القادم سنتناول (الرؤية الآشورية) لـ"مسالة الأقليات" في سوريا
•باحث سوري مهتم بقضايا الأقليات
التعليقات