بدأت القصة بمجرد حادث حريق حين شبت النيران في أحد المنازل الريفية بقرية تتبع مركز "البلينا" في محافظة سوهاج جنوب مصر، وكان السبب وفق رواية الأهالي أن طيوراً مشتعلة حطت على سطح أحد المنازل حيث يضع الناس القش وغيره من المواد القابلة للاشتعال، وفسر الأمر حينئذ بأن حريقاً ربما شب في "برج حمام" فاحترقت الطيور ومن ثم حلقت في سماء القرية هرباً من النيران التي تكون قد أمسكت بها بالفعل، لتتحول بهذا إلى كرات ملتهبة تحط هنا وهناك، وتسبب الحرائق التي تكررت خلال الأيام الماضية على نحو أصبح يثير الفزع ويطرح التساؤلات حول أسبابها الحقيقية.
وقبل أن يركن الريفيون في جنوب مصر إلى هذا التفسير، حدث أن انتقلت هذه الحرائق الطائرة من قرية إلى أخرى، ومن مركز إلى آخر، بل وانتقلت بين محافظات الإقليم، الأمر الذي انتفت معه مسألة "الحمام المشتعل" تلك، حين انتقلت هذه الحرائق الغامضة بين قرى "برديس والعوكلية والعصارة والغابات والشلولية والحبيل والزرابي وأولاد علام وأولاد عليو وعرابة ابيدوس" وغيرها، لتمتد إلى محافظة قنا في أقصى جنوب البلاد ويتحول الأمر إلى لغز، لم يجد له المسؤولون المحليون من تفسير سوى "الماس الكهربائي" نتيجة الأحمال الزائدة في فصل الصيف والإفراط في استخدام المراوح والثلاجات وأحياناً المكيفات، غير أن حرائق شبت في بعض المنازل التي ليس بها كهرباء أساساً، نسف التفسير الرسمي.
وهكذا هيأت هذه الظاهرة المناخ أمام انتشار الخرافات، وشيوع التفسير الغيبية كالقول بأن هناك من اعتدى على "كنز فرعوني" يحميه الجن، وهذا الذي يحدث هو عقاب لمحاولات انتهاك حرمة ملوك الفراعنة الذين يحصنون مقابرهم بحماية سحرية، وأكد الأهالي انهم شاهدوا كرات نارية تسقط علي منازلهم ولم يعرفوا مصدرها وادت إلى اشتعال النيران وسرت شائعات بأن الجن وراء هذه الحرائق التي تختار ضحاياها بعناية واضحة، وليست مجرد مصادفات، كما أكد لـ (إيلاف) عدد من الأهالي الذين اتصلنا بهم للاستفسار عن حقيقة ما يجري وما يتناقله الناس من شائعات وتفسيرات.
شيوخ القرى ورجالاتها باتوا يصفون هذه الطيور المشتعلة التي تسببت حتى الآن في حرق أكثر من مائة منزل بأنها تشبه "الطير الأبابيل" في إشارة إلى ما ورد ذكره في سورة "الفيل" بالقرآن الكريم، واعتبروا الأمر عقاباً إلهياً لهذه القرى "الظالم أهلها" نتيجة تخليهم عن عاداتهم الأصيلة وتقليد العادات والسلوك القاهري، خاصة بين الشباب، ويصف الشيوخ ورجال الدين الأمر بأنه محنة وابتلاء، ويدعون الناس من على المنابر إلى التوبة عما اقترفوه من موبقات، خاصة مع انتشار محاولات الحفر في المنازل القديمة والمقابر بحثاً عن كنوز قديمة، والاستعانة بالسحرة والدجالين في سبيل تسخير الجن لفتح تلك الخبيئات الفرعونية، وهذه المسألة منتشرة بالفعل في مئات من قرى صعيد صعيد مصر، إذ أن هوساً بالتنقيب عن كنوز الفراعنة شاع على نحو واسع بين الأهالي، خاصة مع قصص تواترت عن عثور البعض على آثار وتماثيل ذهبية، وبيعها لتجار الآثار ومن ثم تحقيق أرباح طائلة أحدثت نقلة نوعية في حياة بعض الأشخاص، الذين تحولوا من مجرد عمال بالاجر إلى مليونيرات في ظروف غامضة، مع الإشارة هنا إلى أن صعيد مصر بالفعل ينام على مخزون هائل من الكنوز والخبايا الفرعونية والرومانية والقبطية والإسلامية التي يتكشف كل يوم جديد فيها.
وقال أحد ضباط المباحث في صعيد مصر، والذي استطلعت (إيلاف) رأيه بشأن حقيقة الأمر، إنه أبسط كثيراً مما يروج في الشارع بين البسطاء، فهذه الحرائق ـ والكلام لضابط البحث الجنائي ـ امتدت من أحد المنازل عن طريق اشتعال النيران من فرن بلدي وتصادف وجود كميات كبيرة "من الحمام" ببرج حمام لأحد المواطنين، أمسكت به النيران مما ساعد في اشتعال النيران بالمنازل المجاورة والقرى المجاورة، وليس في الموضوع لا جن ولا عفاريت ولا سحرة وكنوز فراعنة، ولا طير أبابيل، ولا أي شئ من كل هذا"، على حد تعبير ضابط المباحث الذي طلب عدم ذكر اسمه.
- آخر تحديث :
التعليقات