قصي الصالح الدرويش من باريس:لم يسفر إقرار مجلس الشيوخ لقانون الهجرة الفرنسي عن إطفاء حدة الجدل المرافقة له بل زادها. ورغم أن مجلس الشيوخ أرغم الحكومة على تنازلات عديدة انتهت إلى تعديل التعديل بشكل يفرغه تقريبا من محتواه الأول إلا أن ما تضمنه من لجوء إلى تحليل الحمض الريبي النووي dna لتأكيد صلة القرابة ما زال يثير نقمة المعارضة اليسارية وتنديد شرائح عديدة في المجتمع الفرنسي، بل وداخل حزب ساركوزي نفسه، حيث تم إقرار التعديل بأغلبية 176 صوتا مقابل 139، أي أن 12 سيناتور يميني صوتوا ضده فيما امتنع 9 آخرين عن التصويت.

وقد حاول وزير الهجرة بريس هورتفو جهده لحشد أصوات مجلس الشيوخ لصالح هذا المشروع مشيرا إلى أن سياسته لا تتلخص فقط بثلاث حروف هي DNA . ولا يمكن القول إن الوزير نجح في مسعاه لأن التعديل خضع لتعديلات كثيرة أفرغته من محتواه. فخلافا لما جاء في الصيغة الأولى، تنص الصيغة المعدلة على تقصي القرابة مع الأم فقط تلافيا للأخطار التي قد تنجم من تقصيها مع الأب الذي قد لا يكون الأب البيولوجي الحقيقي ويبدو أنه تم استثناء بعض الدول من هذا التحليل ومنها دول المغرب العربي.

كذلك فإن اللجوء إلى اختبار الحمض النووي لم يعد إلزاميا بل بناء على رغبة طالب الهجرة. وفيما كانت الصيغة الأولى تلزم الدولة الفرنسية بتحمل نفقات التحليل بالنسبة لمن تثبت قرابتهم فقط، أصبح مجانيا للجميع. وقبل إجراء أي تحليل جيني لا بد من حصول القنصليات الطالبة للتحليل على موافقة المحكمة البدائية التي تحدد ما إذا كان هناك ضرورة له.

باختصار، يتواصل تصحيح النص وتعديله منذ إعداده، لدرجة تقرر معها اعتماده لفترة تجريبية من 18 شهرا. كما تم إلغاء البند الذي ينص على وضع قائمة بأسماء الدول التي يشتبه بصحة السجلات المدنية فيها. كذلك راجعت الحكومة بعض طموحاتها باتجاه الانخفاض خاصة إجراء إلزام المهاجرين في إطار لم الشمل بتعلم اللغة قبل المجيء إلى فرنسا. كما جرى تخفيف حجم الدخل المطلوب للانتفاع من لم الشمل بالإبقاء عليه عند مستوى الحد الأدنى للأجور بالنسبة للعائلات المكونة من خمسة أشخاص وأكثر بقليل بالنسبة للستة أشخاص كما تم إعفاء كبار السن من هذا الإلزام.

ورغم كل هذه التعديلات، ما تزال فكرة اللجوء إلى التحليل الجيني تثير انزعاجا حادا يحرج الحكومة، خاصة بعد إبداء اللجنة الاستشارية الوطنية للقواعد السلوكية لرأيها القائل بأن إدراج تعرف بيولوجي في القانون مخصص للأجانب فقط يجعل من القرابة الجينية عاملا حاسما وهو مع يتنافى مع روح القانون الفرنسي إلى جانب ما قد يحمله من خطر تجريم ومن quot;شبهة الاحتيالquot; التي ينطوي عليها. كما أعربت عن تخوفها من صيغ تطبيق هذا الإجراء، مشيرة إلى أن المواطن الفرنسي قد يفهم ما يعنيه في حال واجهته مطالب مشابهة عندما يطلب تأشيرة دخول لبلد ما.

ورأت اللجنة أن اعتماد قرابة الدم يخالف القانون والعائلة الفرنسية التي فيها حالات تبني وفيها زواج ثاني وأولاد من أب أو أم أخرى أو أطفال غير شرعيين. كما أعربت عن قلقها من الضغط غير العادية الذي يقع على طالب الهجرة مشيرة إلى البعد الرمزي العميق في مجتمع يطلب من الحقيقة البيولوجية أن تكون الحكم الأخير في مسائل تمس الهوية الاجتماعية والثقافية، مما قد يقود إلى انتشار هذا النوع من التعرف وهو ما يمس الحريات الفردية.

يشار إلى أن هذه اللجنة مستقلة مهمتها تقديم الرأي في المشاكل الخاصة بقواعد السلوكيات وهي مكونة من 40 عضوا ويرأسها أستاذ جامعي في الطب وتضم أطباء وفلاسفة وممثلين عن الطوائف الدينية وقضائيين وباحثين ونواب.

من جانبه طالب الحزب الاشتراكي بسحب التعديل الغير مقبول والصعب التطبيق وفقا لأحد نوابه فيما رأت نائبة من الحزب الشيوعي فيه إعلان حرب على الأجانب المقيمين بشكل شرعي على الأراضي الفرنسية والراغبين في استقدام عائلاتهم. كما تحركت الجمعيات المناهضة للعنصرية، ليصف رئيس جمعية quot;مرابquot; القانون بأنه خطأ سلوكي أخلاقي، مشيرا إلى أن تصويت مجلس الشيوخ يمثل quot;تراجعاquot; وبقعة تلطخ صفحة تاريخ الحقوق والحريات الأساسية. أما برنار تيبو رئيس أهم نقابات العمل الفرنسية فأنذر بأن فتح هذا الطريق quot;يعني القبول غدا بخزي آخرquot;.

وجاءت الضربة الأقوى من الشخصيات السياسية والثقافية المعروفة ومن بينها رئيس الحكومة الأسبق إدوار بالادور الذي عينه ساركوزي رئيسا لمراجعة مشروع الدستور والذي قال quot;لو كنت برلمانيا لاقترعت ضد هذا القانون لأسباب أخلاقية لأن فكرة التحليل الإجباري تصدمني بشكل كبيرquot;. رفض أيضا من شارل باسكوا وزير الداخلية الأسبق رغم أنه كان ولسنوات طويلة زعيم الصقور في الحزب الديغولي. أما وزير العدل الاشتراكي السابق روبير بادانتير الذي يتمتع باحترام كبير لدى مختلف الفئات والذي كان وراء إلغاء حكم الإعدام في فرنسا فأكد أن الدستور يسمح بتحليل الحمض النووي في مجال المطالبة بالأبوة فقط وليس لأي غاية أخرى.

لكن التحرك الأكبر جاء من أطلقتها جمعية SOS-Racisme المناهضة للعنصرية بالتعاون مع مجلة شارلي هيبدو والتي أطلقت عريضة إلكترونية تلقت10 آلاف توقيع بعد ساعات من طرحها و50 ألف توقيع حتى كتابة هذه السطور، وطبقا للقائمين على موقع quot;لا تلمس حمضي النووي الريبيquot; www.touchepasamonadn.com,

فإن كل دقيقة تشهد عشر تواقيع. ومن ضمن الموقعين رئيس الحكومة السابق دومينيك دوفيلبان، فرنسوا بايرو، لوران فابيوس، فرنسوا هولاند، ميشيل روكار، جاك لانج ومن الشخصيات العامة المؤرخ بنيامين ستورا والمغني كالي ورئيس مجلس إدارة quot;فناكquot; أهم سلسلة مكتبات في فرنسا ولاعب كرة القدم ليليان تورام والنجمة السينمائية ايزابيل ادجاني وزميلها شارل بيرلينغ. وقد استرعي النجاح الكبير لهذه العريضة اهتمام المراقبين خاصة وأنها ضمت للمرة الأولى تواقيع أشخاص غير معتادين على العرائض أو إبداء الرأي في الأمور السياسية، مما يشير إلى أن هذا القانون يثير حالة تململ كبيرة، خلافا لما أكده المدافعون عنه من أنه إجراء شعبي.

من الواضح أن القانون يهدف أصلا إلى وضع العراقيل أمام استقدام المهاجرين المقيمين لعائلاتهم لكن التعديلات والتنازلات الجديدة تبعد هذا الهدف ليبدو تصويت مجلس الشيوخ مخرجا لحفظ ماء الوجه. ورغم أن اللجنة الأوروبية أعلنت أن القانون الأوروبي لا يمنع اللجوء إلى التحليل الجيني لإثبات القرابة العائلية دون إشارة إلى الحمض الريبي النووي تحديدا، إلا أن سبع دول أوروبية هي النمسا، بلجيكا، فنلندا، ليتوانيا، هولندا، السويدوانجلترة تشير في تشريعاتها إلى احتمال اللجوء إلى التحليل في حال غياب الوثائق التي تثبت القرابة.

لكن قراءات تقول بأن هذا الملف لم يكن سوى ذرا للرماد في العيون يشغل المهاجرين عن الملفات الحقيقية المتعلقة بالاندماج وفرص العمل والتنمية الاقتصادية للضواحي الفقيرة، ملفات توقف الحديث عنها مع نهاية الحملات الانتخابية.