واشنطن: أدى الوجود الأميركي في العراق إلى الإضرار بصورة الولايات المتحدة الأميركية عالميًّا، فقد أوضحت نتائج استطلاع لبيو في عام 2006 أن الوجود الأميركي في العراق جعل العراق أكبر تهديدًا للأمن والسلم الدوليين من إيران، وفي عام 2007 أظهر استطلاع آخر لبيو أن الصين ذات دور فعال إيجابي على المسرح الدولي من الدور الأميركي.

وفي ظل الانقسام وثقل مهمة العراق على الرئيس الأميركي الجديد الذي سيرث ما بين 130 ألف إلى 150 ألف جندي بالعراق بجانب عديدٍ من الأزمات التي تظهر من حين إلى آخر، فضلاً عن تحسن الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية بالعراق حسب عديدٍ من الكتابات والتحليلات الأميركية، والتي تبلورت مؤشراتها في تقليل العنف والعمليات المسلحة، وتحسين ميزانية عام 2008، وقانون العفو الذي دعمه زعماء الميليشيات وانتخابات المحليات، ونمو الناتج الإجمالي بالعراق مؤخرًا، فحسب إحصاءات وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) زاد الناتج الإجمالي الأميركي من 38 مليار دولار خلال عام 2003 إلى 90 مليار دولار خلال عام 2007، نشر برنامج quot;فرصة 08quot;Opportunity 08 التابع لمعهد بروكينغز ، الذي يساعد مرشحي الانتخابات الرئاسية الأميركية والرأي العام بالتركيز على القضايا الخلافية التي تشهدها الانتخابات الأمريكية، والتي تقدم جملة من السياسات المقترحة بصورة مستقلة حول عديد من القضايا الداخلية والخارجية دراسة لـ quot; كارلوس باسكول ، وهو نائب رئيس معهد بروكينجز ومدير برنامج دراسات السياسة الخارجية، دراسة بعنوان quot; العراق في 2009، كيف نعطي فرصة للسلام.

هل هذا التحسن قابل للاستمرار؟

في إطار الإجابة عن هذا التساؤل يقول كارلوس باسكول :إنَّ استمرارية هذا التحسن في الأحوال العراقية يرتبط بأربعة عوامل رئيسة وهي:

العامل الأول: الذي يتمثل في التعاون داخل التيار السني والذي يعتمد بصورة أساسية على مدى الإدراك للمصالح السنية، فيشير إلى أن المتمردين السنة خلال عامي 2004 إلى 2006 عملوا على عدم استقرار العراق، وإلى تعاون القبائل السنية بالأنبار والمحافظات العراقية الأخرى في عام 2006 مع الولايات المتحدة في محاربة القاعدة بالعراق، وإلى معضلة العلاقة بين سنة وشيعة العراق حيث يرفض أغلبية التيار السني الخضوع للحكومة العراقية ذات الأغلبية الشيعية.

العامل الثاني: يتمثل في التنافس داخل الميليشيات الشيعية، والذي قد ينفجر في أي لحظة، والذي من شأنه العصف بأي تحالف للقوى. ومثل السنة فإن أي تحسن بين الشيعة يرتبط بأخذ مصالحهم بعين الاعتبار ولكن مصالح الشيعة تختلف من قوى أو ميلشيا إلى أخرى.

العامل الثالث : يرتبط بالقوات العراقية، فعلى الرغم من التحسن في أداء القوات العراقية وتحقيقها الأمن في عدد من المدن العراقية، إلا أنها ليست قادرة على القيام بمهامها الأمنية على أكمل وجه دون التعاون مع قوات التحالف بالعراق والدعم الذي تقدمه قوات التحالف لها في ظل تزايد مطامع دول الجوار في العراق وتزايد دورها داخل العراق. فحسب quot;كارلوسquot; ليست القوات العراقية قادرة على فرض القانون.

العامل الأخير: وهو يرتبط بسلطات المحافظات العراقية التي تحتاج إلى مزيد من سلطات الحكومة المركزية.

ويقول كارلوس :إن الصورة العامة في العراق تُشير إلى أن التقدم مبني على قاعدة سياسية هشة ، فلو خرجت الولايات المتحدة الأميركية من المعادلة العراقية فإنه يتوقع عودة العنف إلى أشده مجددًا في العراق، وبصورة أقوى مما كان عليه في الماضي، مُعيدًا تكوين المليشيات المسلحة لاسيما السنية الرافضة للخضوع لحكومة ذات أغلبية شيعية، ولذا يرى أن ترك القوات الأمريكية العراقَ وهو في هذا المستنقع أمر غير مقبول فمن شأنه دفع العراقيين إلى حرب أهلية تعصف بالاستقرار والأمن المتحققين بالعراق مؤخرًا.

الاستراتيجية متعددة الأطراف

يدعو الكاتب إلى استمرار دور الولايات المتحدة وسيطًا بين العراقيين، وأن المهمة الأميركية يجب أن تأخذ في اعتبارها تعقد الأمور وتشابكها وتداخلها في كثير من الأحايين. والدور الأميركي الساعي لتحقيق المصالحة بين الأطراف العراقية لن ينجح في غياب الاستقرار العراقي. فيشير إلى الفراغ التشريعي العراقي في منتصف هذا العام الذي قوض من قيام البرلمان العراقي بمهامه من صياغة التشريع. ويقول:إن استقرار العراق لا يتم من خلال مجموعة من التشريعات المتتالية والمتعاقبة لاسيما في تداخل عديد من القضايا مثل العوائد النفطية والعلاقات بين المحافظات ودول الجوار، ولذا لا يتوقع أن تحل الأطراف العراقية المتنازعة هذا الوضع المتداخل دون الوقوف والفهم لهذا التداخل والتشابك.

ويؤمن quot;كارلوسquot; بالدور متعدد الأطراف على عكس إدارة الرئيس بوش التي كانت تفضل العمل الانفرادي ظنًا منها أن هذا يخدم مصالحها، ولكنها مؤخرًا آمنت بأهمية العمل الجماعي نظرًا لتعقد المشاكل والتحديات التي تواجهها على المسرح الدولي. ويتطرق الكاتب إلى حوارات دول الجوار للعراق التي عُقدت في إسطنبول وشرم الشيخ وبغداد، وحوارات وزيرة الخارجية quot;رايسquot; ووزير الدفاع quot;جيتسquot; مع دول الجوار لاسيما الدول الخليجية لتطويق النفوذ الشيعي المتزايد بالعراق. ويرى الكاتب أن دعوة دول الجوار إلى الاجتماعات دون وضع أجندة استراتيجية يُعقد من المفاوضات لاختلاف مصالح تلك الدول ولذا لابد من الاتفاق على أجندة المصالح والانطلاق من أجندة موحدة لحواراتهم.

وفي إطار العمل الجماعي متعدد الأطراف، يُؤكد quot;كارلوسquot; على أن يكون للأمم المتحدة دور في العراق، حيث إنها الأجدر على إجراء حوارات مع القوى العراقية ودول الجوار للعراق الذين هم أعضاء في المنظمة. وعلى الرغم من أن الدعوة لأن يكون للولايات المتحدة دور في العراق غير متحمس لها أمريكيًّا إلا أن دور الأم المتحدة يساعد أوروبا والصين وروسيا على أن يكون لهم دور في المصالحة العراقية. ولإنجاح دور الأممِ المتحدة في العراق يدعو المسئولون الأميركيون للترحيب بهذا الدور والقيام بترتيبات أمنية لإنجاح الجهود الدبلوماسية.

ولإنجاح هذا الدور في العراق لابد من الاعتراف بمواضع النقص والضعف، وأن يكون للدول الأعضاء بمجلس الأمن دور بدلاً من الاكتفاء برؤية الولايات المتحدة الأميركية وهي في هذا المستنقع. ويعول الكاتب على الصين وروسيا لأنهما قد يلعبان دورًا بناءً بمنطقة الشرق الأوسط وبسوق الطاقة العالمي والذي يصب في مصلحتهما بتدعيمهما للدور المحوري للأمم المتحدة بالعراق.

ويدعو إلى وجود القوات الأميركية لبعض الوقت بعد تحقيق المصالحة العراقية؛ وذلك لتحقيق الاستقرار والأمن والحفاظ عليهما مستشهدًا بخبرة حل الصراعات الدولية، والفترة التي تلي التوصل لحلول للصراعات السياسية وما يترتب عليها في بعض الوقت من انقلاب على الاستقرار والأمن، فوجود القوات الأميركية قد يكون مفيدًا من هذا المنطلق.

مكونات اتفاق المصالحة العراقية

لا يقتصر الكاتب في دراسته على توصيف الوضع العراقي ولا على الدعاوي، ولكنه يقدم حلولاً عملية للنزاع والانقسام العراقي من أجل استقرار وأمن العراق وتحسين العملية السياسية والأمنية والاقتصادية والذي من شأنه تسريع سحب الولايات المتحدة قواتها العاملة بالعراق، وعدم تحويل العراق إلى دولة مخفقة ndash; دولة فاشلة - بعد انسحاب القوات الأمريكية من العراق.

واستنادًا إلى خبرة حل الصراعات في البوسنة وأفغانستان يؤكد quot;كارلوسquot; أن أي اتفاق أو مصالحة تحتاج إلى انخراط كافة القوى العراقية ودول الجوار والقوى الدولية الرئيسة مثل: الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمانحين. والأهم من ذلك هو تدعيم ما تتمخض عنه تلك الاتفاقيات والمصالحات. وقد تبلور تصور quot;كارلوسquot; للمصالحة العراقية في أن الاتفاق أو المصالحة لابد أن يتكون من خمسة عناصر أسياسية، وهي:

العنصر الأول،على أساسه تقوم معادلة يطلق عليها أجندة (5+1)، وهذه الأجندة تنقسم إلى خمسة عوامل مقابل عامل واحد، تتمثل العوامل الخمسة في: العلاقات الفيدرالية - الإقليمية، تقسيم العوائد النفطية، الدمج السياسي للقوى المهمشة، نزع التسلح، تفكيك وإعادة دمج الميلشيات، حقوق الأقليات. والعامل رقم واحد يتمثل في موعد الاستفتاء في كركوك الذي نص عليه الدستور العراقي، وهو الأمر الذي قد يؤدي إلى استقلال الأكراد وفرض المزيد من الضغوط على تركيا وإيران. ويرى quot;كارلوسquot; أنه طالما استمرت تلك القضايا متداخلة فلابد من مناقشتها كوحدة واحدة للوصول إلى حلول تدوم إلى أطول فترة ممكنة بدلاً من مناقشتها على مراحل تعظم من مصالح طرف على آخر.

العنصر الثاني ، من اتفاقية المصالحة الاتفاق على هدنة لخمس سنوات، والتي تعطي مؤشرًا إلى إمكانية إنهاء العنف، وتمكن الأطراف العراقية من حل مشاكلهم ومظالمهم.

العنصر الثالث ، في إدانة كافة الأطراف العراقية وقادة الميلشيات تنظيم القاعدة وهجماتها والاتفاق على التعاون ضد القاعدة وإنهاء وجودها في العراق.

ويقترح الكاتب أن يكون للمفاوض الأممي دور في الحوار مع الميلشيات التي تحارب الولايات المتحدة لمعرفة مواقفها من أجندة (5+1).

والعنصر الرابع، في تلك الاتفاقية يرتبط باللاعبين الإقليميين، فعليهم بحث مصالحهم ضمن الأجندة التي ستكون محور المصالحة التي تحدث عنها الكاتب، وهو الأمر الذي يكشف للمفاوض الأممي الدول الداعمة للمصالحة والتي يجب دمجها، والدول المعارضة والتي لا تهدف إلى تحقيق المصالحة؛ ومن ثَمَّ يدعو إلى عزلها لأنها تلعب دور المخرب لأي مصلحة عراقية من أجل تحقيق مصالحها في ظل غياب الاستقرار العراقي.

والعنصر الخامس، لهذه المصالحة وهو الحاجة إلى دعم المتخصصين الذين يقدمون خبراتهم ونصائحهم في كثير من الأمور الجدلية والتي تساعد على البناء في مرحلة ما بعد حل الصراع، مثل تقديمهم نصائح لإعادة بناء محطات البث الإذاعي والتلفزيوني والذي يدحض ما تبثه المنظمات الإرهابية وتنظيم القاعدة للمواطن العراقي.

كيفية إنجاح المصالحة العراقية

ولإنجاح المصالح العراقية يطرح quot;كارلوسquot; عديدًا من الأمور التي يجب أخذها في الاعتبار عن تحقيق المصالحة العراقية والتي تتمثل في:

أولاً: إن إطار المصالحة العراقية والتزاماتها يجب أن يكون واضحًا للعراقيين والمجتمع الدولي، ولإيجاد نوع من المصداقية يجب التركيز أكثر على النتائج في المدى القصير كالأمن والوظائف، فالأحوال التي تتولد بعد إنهاء الصراع قد تدفع إلى الإحباط واليأس في حال عدم تحقيق ما كان متوقعًا بعد الوصول إلى حل للصراع

ثانيًا: يجب أن يؤمن العراقيون بوحدة العراق، وتوافر الاتفاق على النقاط العريضة التي سيتم على أساسها الاتفاق، وأن يكون دور الولايات المتحدة دورًا محايدًا، والتي ستوفر نقاط الالتقاء لحل الصراع والتي سيتيح للعراقيين إعادة بناء الثقة تأسيسًا على الملكية المحلية من منطلق قومي وليس مذهبيًّا طائفيًّا. وأن توفر الأمم المتحدة ديناميكية للحوار بين الفاعلين وبناء الثقة بينهم وخلق آلية لتحقيق ما تم الاتفاق عليه.

ثالثاً: تحقيق الأمن، إن الاتفاق في ظل حرب أهلية يحتاج إلى قوات حفظ سلام لتحقيق الأمن وتوفير مساحة لتحقيق ما تم الاتفاق عليه. ويرى الكاتب أن يتم ذلك تحت قيادة الأمم المتحدة بحيث تركز على أمن الحدود في وقت تسحب فيه القوات الأميركية من العراق. وحسب الكاتب أن الخيار الواقعي هو وجود 150 ألف جندي (إجمالي القوات الأميركية والأمم المتحدة) داخل العراق في السنة الأولى حيث توفر الولايات المتحدة 100 ألف جندي، ثم يتم خفضه إلى 100 ألف، في حال توقيع الاتفاق تشارك الولايات المتحدة بـ 50 ألف في السنة الثانية. ولكن من الناحية الواقعية يصعب توقع أن تخضع الولايات المتحدة قواتها تحت إشراف الأمم المتحدة.

رابعًا: حكم القانون، حيث يرتبط إعادة الثقة العراقية بإعادة حكم القانون بقطع النظر عن المذهب والعرق، والذي يحتاج إلى دور لوزارة الداخلية والأمن والمحاكم وزيادة عدد القوات العراقية لتحقيق الأمن وفرض القانون. والذي يحتاج إلى ما بين 20 إلى 30 ألف من عناصر الشرطة الدولية كجزء من المهمة الدولية. وتلك الأعداد غير متوفرة، كما ترتفع تكلفة إعادة بناء وزارة الداخلية، وأي إخفاق في فرض القانون سيكون له كبير الأثر في فرص تحقيق الأمن والاستقرار بالعراق.

خامسًا: العوائد النفطية، كان الخلاف حول توزيع العوائد النفطية أحد المصادر التي دفعت المتمردين السنة لتبني العنف، حيث تعول الدراسة على إعادة توزيع العوائد النفطية لتقليل العنف وتوفير الأمن والاستقرار العراقيين.

سادسًا: المصالحة والحكم والسياسة، من الأخطاء الشائعة التحول بعد الاتفاقيات السياسية مباشرة إلى الانتخابات، حيث قد تشجع الانتخابات التنافس الطائفي بين القوى، وهو الأمر الذي لا يعني التنازل عن تطبيق الديمقراطية، ولكن مشاركة كل القوى لتدعيم عملية المصالحة لتجنب العودة إلى التوترات السابقة. ويجب أن يتقبل المجتمع الدولي أي تغيير، وعدم النظر إليه على أنه تحول غير ديمقراطي.

وفي نهاية دراسته يخلص quot;كارلوسquot; إلى أن مهمة تحقيق المصالحة العراقية تقع على الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلنطي والاتحاد الأوروبي والمانحين الدوليين، حيث يؤكد على دورهم في التعامل مع تحديات إعادة بناء الحكومة العراقية لتقوم بوظائفها والتزاماتها وفرض حكم القانون والأمن وتوفير بيئة محفزة للاستثمارات. ويرى أن بناء المصالحة العراقية يحتاج إلى فترة زمنية طويلة قد تصل إلى عِقْدٍ والى موارد كثيرة. ولذا يدعو إلى الاستفادة من العوائد النفطية لقيام بتلك المهام.

وتخلص الدراسة أيضًا إلى أن الأوضاع في العراق والسياسات الأميركية والدولية سوف تتغير بسرعة وسيكون لها تأثير على ما سيحدث بالعراق. ويرى أن الولايات المتحدة الأميركية أخفقت في التعامل مع الطبيعة المعقدة للتحديات الاقتصادية والأمنية والسياسية بالعراق. ويشير إلى تداعيات الاحتراب الطائفي الذي تشهده العراق بين السنة والشيعية الذي تدعمه إيران سوف يتنقل إلى باقي دول منطقة الشرق الأوسط، فضلاً عن إمكانية تحول العراق إلى ساحة لتصدير الإرهاب إلى باقي دول الجوار. وكل هذا يتطلب العمل الجماعي تحت إشراف الأمم المتحدة التي يدعو الكاتب إلى أن يكون لها الدور المحوري في العراق.