سابرينا تافرنيس: تشبّه المحامية التركية والمناضلة في مجال حقوق المرأة فاطمة بنلي، الضجةَ التي يصدرها الجدل القائم على وضع الحجاب الإسلامي بالصوت المزعج الذي تصدره اسطوانة مكسورة.مع أنّ بنلي، البالغة من العمر أربعة وثلاثين عاماً، ترتدي الحجاب، الا أنها تفضّل التكلّم في مواضيع أخرى.

فتقول وهي تردّد بجمل سريعة ما يقع ضمن خبرتها: quot;أستطيع إخبارك عن العنف المنزلي، وجرائم الشرف، وأقسام القانون الجنائي التي تنطوي على تمييز بحق المرأة. لكن لا يمكننا الانتقال للحديث في هذه المواضيعquot;.quot;عند مسألة الحجاب يتوقّف حديثناquot;.

أما قصة بلوغ تركيا هذا الجدل فهي أيضاً إلى حدّ كبير قصة بنلي التي شكّلت، وإن مترذّدةً، مشاركةً محوريةً في الخلاف القائم في تركيا حول ما إذا كان يجب السماح للمرأة أم لا وضع الحجاب في الجامعات. في هذا الإطار، رفع الحزب الحاكم الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان هذه القضية إلى المجلس النيابي، ساعياً بذلك إلى رفع الحظر عن ارتداء الحجاب في خطوة أغاظت المؤسسة العلمانية في تركيا.وفي التاسع من شباط/فبراير خطا المجلس النيابي خطوةً مهمةً باتجاه رفع الحظر، بعد تصويت مجموع أعضائه على إجراء يقضي بتعديل الدستور بشكل يرون أنّه يضمن للمواطنين جميعاً حقّ ارتياد الجامعات باللباس الذي يريدون.

انتقلت أسرة بنلي من الريف التركي إلى اسطنبول قبل أن تبصر هذه الأخيرة النور. وقد جاء انتقالها إلى العاصمة ضمن موجة واسعة من النزوح إلى المدن بدأت في المنتصف الثاني من القرن الماضي حيث سعى عدد من الأتراك غير المثقّفين والمتديّنين وراء الوظائف في الصناعات الجديدة الناشئة. فكانت النتيجة أن تحوّلت تركيا من مجتمع زراعيّ إلى مجتمع مُدُني بحيث أصبحت المدن اليوم تضمّ أكثر من 70% من سكان البلاد. وبحلول تسعينات القرن الماضي، بدأ أولاد هؤلاء بارتياد الجامعات.

ومع ذلك كلّه، بقيت الدولة منقسمةً إلى طبقات، في حين وقفت نخبة العلمانيين التي سيطرت على الدولة عن طريق المؤسسات كالمؤسستين العسكرية والقضائية تراقب بحذر نساءً محجّبات لم تحظَ أمّهاتهنّ بثقافة يدخلن إلى الجامعات بأعداد متزايدة.

كانت بنلي الأولى في أسرتها التي حظيت بتعليم جامعي، وقد حصلت على إجازة في القانون قبل أن تباشر الدولة تطبيق الحظر في أواخر تسعينات القرن الماضي. إلا أنّ عاميها الإضافيين من الدراسة الجامعية توقّفا بسبب هذا المنع، وهو تفسير لحكم صدر في وقت سابق. فكان على بنلي أن تناقش شفهياً رسالة الدراسات العليا المؤلفة من 300 صفحة في حرم كلية الحقوق في جامعة اسطنبول. وقد فشلت والدتها المحجّبة هي الأخرى في حثّها على خلع حجابها.

ففي إحدى المقابلات التي أجريت مع بنلي في مكتبها الصغير للمحاماة تقول هذه الأخيرة: quot;لم أقوَ على خلع الحجاب، فغادرت القاعة باكيةً. وبالتالي اعتُبِرتُ أني تغيّبت عن المناقشةquot;.أما الأسباب التي دفعت بها إلى رفضها خلع الحجاب، وهي أسباب جدّ شخصية يصعب تفسيرها بالكلام، فهي مزيج من علاقتها بالله، وكرهها قبول ما تراه سلطةً تُطبَّق في غير موضعها.

وتضيف بنلي قائلةً إنّ quot;المسألة تتعلّق بحياتي الخاصة. هذه شخصيّتي، وهذا كيانيquot;.وفي واحد من الأحداث الصادمة التي أطلع بنلي عليها عددٌ من زبوناتها، أجبر مدير إحدى الجامعات عدداً من النساء على خلع الحجاب أمامه ليحصلن على توقيعه بهدف السماح لهنّ بالانتقال من الجامعة التي يترأّسها.
في هذا السياق، ترى بنلي أنّ ما تبعث به الدولة رسالة مفادها ما يلي: quot;فكّرن كما تشأن، فلي القدرة على أن أملي عليكنّ إرادتيquot;. وهذا الموقف برأيها يشعر المرأة quot;بالإهانةquot; إذا ما خضعت له.

و تجزم بنلي بكلّ حماسة بأنّ الحظر يسير بالمجتمع التركي إلى الوراء من خلال الحؤول دون انخراط النساء مثيلاتها في مهنٍ تتطلّب منهنّ كفاءةً. ففي حين تضمّ نساءُ عائلتها المنتميات إلى جيلها طبيبةً، وطبيبة أسنان، ومعلّمةً، لا تحظى بناتهنّ بكثير من فرص العمل.
ولذلك ترى بنلي أنّ quot;إحساساً بالهزيمة يأخذ النساء اللواتي حصرن هدفهنّ في الحياة بتأسيس عائلة، والحفاظ على زواج سعيد. فلم يعُدن يتطلّعن إلى المثل التي كنا نتطلّع إليهاquot;.

لقد أخذت بنلي على عاتقها منذ عقد من الزمن الدفاع عن قضايا النساء المحجّبات اللواتي يعتبرن أنّ الدولة انتهكت حقوقهنّ القانونية. أما موكلاتها فيشملن طالبات طبّ لا يستطعن الحصول على شهاداتهنّ، وربّة منزل لا يُسمَح لها بتعلّم القيادة، وامرأة يصطحب زوجها الموظّف في القطاع العام امرأةً أخرى، غير محجبة، إلى الاحتفالات الرسمية بصفتها زوجةً له.

إلا أنّ تحجّب بنلي يمنعها من الدفاع عن قضاياها في المحاكم التي تُعتَبَر مباني رسميةً، فتضطرّ إلى إرسال زميلات لها غير محجّبات ليتولّين المهمّة. وفي الشهر الماضي، تحجّبت محامية زميلة لها، وباتت الاثنتان الآن تبحثان لهنّ عن زميلات جديدات.

وفي تصريح لها أدلت به مؤخّراً في مركز نسائي في اسطنبول تقول: quot;يقولون لنا إننا لسنا أشخاصاً. يمكننا أن نحدّكنّ لأنّكنّ بلا قيمة. لا يرجعون إلى القوانين، ويعتبروننا تهديداًquot;.ترى بنلي أنّ الحياة في تركيا ليست باليسيرة على المرأة، والتحجّب يثير مزيداً من التمييز بحق هذه الأخيرة حتى من نساء أخريات.

فتذكر بنلي أنّها وضعت في إحدى المرّات، منذ بضعة أعوام، تقريرا بحث تناول العنف المنزلي في تركيا. وإذ أرادت أن ينتشر التقرير على نطاق واسع، تشاطرته مع مجموعة نسائية أخرى. فأتى ردّها عليه إيجابياً.ووصفت بنلي هذا الردّ كالتالي: quot;قيل لي: quot;هذا تقرير جيّد جداًquot;quot;.بيد أنّها حين التقت النساءَ أعضاءَ المجموعة تلك وجهاً لوجه أحسّت بأنّهنّ يبتعدن عنها. واستذكرت ردّ فعل هؤلاء النساء اللواتي قلن لها: quot;أنت محجّبة!quot;، مضيفةً أّنّهنّ quot;لم يدْعيننا مجدداًquot;.

تجد بنلي أنّ هذا الشكل من التصرّفات يترك بصمته على المرأة. فالمجتمع العلماني يعارض التحجّب ناظراً إليه على أنّه عادة متخلّفة قديمة الطراز. وبنلي تعرف نساءً تحجّبن الآن يحاولن تجنّب المرور بالقرب من جامعات ارتدنها سابقاً، وحيث فُرِض عليهنّ خلع الحجاب. فطعم الذكريات يمكن أن يكون شديد المرارة.

يجتاح النقاش حول قضية الحجاب المجتمع التركي بأسره، من برامج الحوار التلفزيونية التي تضجّ بالجدالات الصاخبة، إلى عناوين الصحف التي تعلن عن انتصارات وهزائم. ونتيجة لذلك نشأ حديث، بعضه لا يستند إلى أيّ معرفة، حول ما إذا كان الإسلام يفرض وضع الحجاب أم لا. لهذه الغاية، ترفض بنلي أن يتّخذ القرارات عنها مَن هم مجرّد هواة في الدين.فتقول والابتسامة تعلو وجهها: quot;هذا الوضع أشبه بطبيب أقدام يشخّص حالة أسنانquot;.

بالتالي فجّر الحظر هذا مقدرة الإبداع لدى كلّ من النساء والدولة التي يحاولن التذاكي عليها. فإذا أرادت الشابات بطاقات هوية تحمل صوراً لهنّ مكشوفات الرأس، لجأن إلى برامج الرسم على الحاسوب ليرسمن شعراً فوق حجابهنّ.إلا أنّ مجلس التعليم العالي التركي المسؤول عن فرض الحظر وقف لهنّ بالمرصاد إذ بعث بمصوّريه إلى الجامعات ليلتقطوا صور الطالبات إلزاماً.كما أنّ بعض النساء أخذ بارتياد الجامعات في الجزء الشمالي من قبرص الواقع تحت السيطرة التركية تملّصاً من الحظر. لكن وفقاً لبنلي، ما لبثت السلطات التركية أن فرضت قواعد تحظّر على المواطنات التركيات ارتداء الحجاب في المدارس هناك. في المقابل، تتمتّع مسلمات أخريات من أوروبا وأفريقيا بحرية وضع الحجاب. ولذلك بلغت تركيا حدّ الطلب من بلغاريا إجبار التركيات على خلع الحجاب في الجامعات كما تفيد بنلي.

تقول بنلي إنّ quot;المتديّنات يُوصفنَ بغير المتماشيات مع الحداثة. والآن يتمّ فرض أساليب لا تمتّ للحداثة بأيّ صلةquot;.في هذه الأثناء، لا يزال الخلاف حول ارتداء الحجاب قائماً. فقد نشرت إحدى الصحف العلمانية الرئيسة في البلاد خبراً عن تظاهرة نظّمتها بنلي ومجموعة من الناشطات في مكان عام، ناعتةً المتظاهرات بالمتمرّدات والمتعصّبات. لكن الصورة الفوتوغرافية للتظاهرة تخبر بروايةً مخالفةً. فتقول بنلي إنّها توسّطت التظاهرة محاطةً بنساء بعضهنّ تحجبّن، وبعضهنّ كشفن عن رؤوسهنّ. ثم تبتسم مازحةً، وتردّد قائلةً: quot;كنت أرتدي اللون الزهري، وكنت أبدو جميلةً جداًquot;.