إسماعيل دبارة من تونس: ارتفع في الأيام القليلة الماضية نسق الهجوم الإعلاميّ الذي تشنّه صحف تونسيّة ومواقع الكترونيّة رسمية وشبه رسمية على فضائيّة quot;الجزيرةquot; القطريّة ومن يقف خلفها. وعلى الرغم من أنّ الحملات الإعلاميّة للصحف الحكومية التونسية على قناة quot;الجزيرة quot; ليست أمرا غير معتاد أو مستغرب، إلا أنّ الحملة الأخيرة التي تزامنت مع الهجوم الإسرائيليّ على قطاع غزة و انعقاد قمتي الدوحة والكويت ، دفعت بالمتابعين والمحللين إلى القول إنّ التراشق بين الجانبين يخفي بين ثناياهquot; الجدل السياسيquot; بين قطر و تونس خصوصا مع اعتذار الرئيس التونسيّ زين العابدين بن علي عن المشاركة في قمة الدوحة و حضوره بالمقابل لقمّة الكويت .

الصحف التونسية و الحكومة من ورائها لم تخف استيائها من تغطية قناة quot;الجزيرةquot; للأحداث في غزة ، و تحوّلها إلى منبر منحاز لطرف عربيّ على حساب آخر ، كما لم تخف وسائل الإعلام تلك استيائها الشديد مما وصفته بعض الأقلام التونسيّة quot; قناة التفتيت القومي ووقود الحرب الأهلية وليست قناة القضايا العربية المصيرية، وكان الهجوم على غزّة مناسبة لتشيّع النزاهة الفكرية وأخلاقيات المهنة الصحفية إلى مثواها الأخيرquot;.
تغطية الجزيرة لتحركات الشارع التونسيّ و استضافتها لرموز ما يسمى بـquot;المعارضة الراديكاليةquot; الذين تحدّثوا عن quot;حالة من التوتّر الشديد في البلادquot; بسبب منع تنظيم عدد من المسيرات المساندة لغزّة ، كانت بمثابة القادح لحملة الصحافة الرسمية على الجزيرة ومن يُموّلها من جهة وعلى ضيوفها الذين نعتوا في أكثر من مقال بـquot;الإرهابيينquot; من جهة أخرى.
و لا يفصل متابعون في تونس بين تغطية quot;الجزيرةquot; للشأن التونسيّ و بين استياء حكام دولة قطر من نظيرهم التونسيّ الذي لم يحضر قمة الدوحة العاجلة و ما يتردّد اليوم عن انضمام تونس لما يسمىّ quot;معسكر الاعتدالquot;.
يقول الكاتب و المحلل السياسي برهان بسيّس في تصريح خاص لإيلاف إنّ quot;الجزيرة خرجت إلى المشاهد التونسيّ و العربيّ عموما خلال العدوان على غزّة عارية بشكل فجّ من المصداقيّة التقليدية للمهنية و الثوابت أو ما يشبه ذلك ، فقد كانت جزء من حرب المحاور العربيّة التي تقاتلت على هامش الحرب على غزّة ، وقد وضعت quot;الجزيرةquot; نفسها و بشكل مباشر في معركة الإمارة الخليجية التي تُموّلها لتصفية حسابات البحث عن الأدوار و التحريض ضدّ المحور الآخرquot;.

و استنادا إلى بسيّس فإنّ هذا التوجّه طبيعيّ ومنتظر لمن لا يحمل وزنا لعناوين الاستقلالية المهنية و اسطوانة الرأي و الرأي الآخر ، لكنّ الغريب بالنسبة لنا كتونسيين أنّ سلاح التضليل المركّز الذي تقوده هذه المحطة قد طرح على عاتقه أكثر من مهمّة ، لا فقط التحريض على مصر بإبراز البطولات الأميرية المأثورة و إنما ضدّ كل العواصم التي اختارت أن تقف مع الشعب و القضية الفلسطينية خارج رؤية الأصوليين والحركات المتشدّدة في سياق رؤية قوميّة وطنية تنحاز للشعب الفلسطيني بعيدا عن حرب المحاور و المزايدات و في سياق احترام القرار الوطني الفلسطيني واستقلاليته بعيدا عن كلّ بطولات كاذبة تصدر بدون خجل على بعد أمتار قليلة من أكبر قاعدة عسكرية أمريكية عدوانيّة في منطقة الشرق الأوسطquot;.
و لأنّ مشاركة تونس في قمّة الكويت مقابل مقاطعتها لقمّة الدوحة لا يمكن أن يمرّ بدون جدل و أقاويل من هنا وهناك ، فإنّ عددا من المحللين أعلنوا انضمام تونس رسميا من خلال تلك المشاركة لمعسكر الاعتدال الذي تتزعمه كلّ من مصر و المملكة العربيّة السعوديّة و الذي لطالما تحفظت عليه الدولة المغاربية في السابق.

يقول المحلّل السياسيّ رشيد خشانة لإيلاف:quot;مشاركة بن علي في أعمال القمة الاقتصادية العربية في الكويت قطعت مع عقدين من الجفاء مع هذا المحور وتحديدا منذ مقاطعة تونس للقمة العربية في القاهرة العام 1990 ، تلك القمّة التي مهدت لشن الحرب على العراق بعد غزو الكويت.و على الرغم من أنّ الجفاء تواصل طوال التسعينات لا يمكن اليوم إنكار أنّ التقارب بين تونس والبلدان الخليجية قطع أشواطا مهمة في السنوات الأخيرة و إن تمسّكت الحكومة التونسيّة بالحفاظ على مسافة واضحة ممّا يسمى معسكر الاعتدال العربي مقابل محافظتها على علاقات طيّبة مع كلّ من سوريا وإيران وليبيا والسودانquot;.

مشاركة الرئيس بن عليّ في قمة الكويت أظهرت تطابق الموقفين المصري والتونسي من قضية عربية ساخنة لأول مرة بعدما كانا يقفان دائما على طرفي نقيض في أغلب التحديات و الأزمات التي واجهت الدول العربية منذ عقود.
خشانة لم يُهمل دور الاستثمارات الخليجية لكلّ من الإمارات و السعوديّة على قرار النظام التونسي quot;الانحيازquot; إلى الكويت وquot;الاعتدالquot; فحجم الاستثمارات الخليجية في تونس كبير و يشكّل سلاحا ذو حدّين للحكومة التونسيّة في حربها ضدّ البطالة المتفشية في البلد.
و يضلّ الفرق بالنسبة إلى المحلّل رشيد خشانة بين قرار تونس في 1990 و قرارها اليوم ذلك البون الشاسع بين الرأي العام المحلّي الذي كان في التسعينات منحازا لرغبة العراق في غزو الكويت ، و المُمانع اليوم لقرار تونس الدخول في محور الاعتدال ، ولعلّ الاحتقان الشعبي و المسيرات الداعمة للمقاومة و القطاع خير دليل على ذلك.

برهان بسيّس كان له رأي آخر ، فهو يعتقد أن تونس ضلت دوما حريصة على عدم التموقع في لعبة المحاور التي اعتبرها ذات مقاسات مضحكة و لاتميّز بين مُمانع حقيقيّ و معتدل. و يقول:quot; تونس مستقلّة في قرارها الذي ينبع دوما من مصلحة مواقفها السياسية و التزاماتها القوميّة التي تضع وحدة الصفّ العربيّ أساسا لأيّ تمشيّ لها.

فتونس تذكّر الجميع اليوم انه و بمثل اعتذارها عن قمّة الدوحة، كانت واضحة سنة 1990 برفضها حضور اجتماع القمة العاجل بالقاهرة عشية غزو العراق للكويت، إذن فتونس لا تقبل في هذا السياق المزايدة على مواقفها القوميّة المشرّفة التي تؤمن ، في حالة القضية الفلسطينية بالذات، إنه من المعيب فعلا أن تبحث بعض الجهات العربيّة حكومات أو تلفزيونات عن لعب دور البطولة الكاذبة على حساب دم الفلسطينيين ومستقبل قضيّتهم .
و يختم بسيّس قائلا:quot; تونس ستضلّ حريصة على علاقات جادة مع كلّ العواصم العربية و ستنأى بنفسها عن كل المهاترات و المزايدات التي قد تعطي صورة قاتمة عن العمل العربيّ المشتركquot;.