يبدو ان هناك وجود دبلوماسي رفيع المستوى في كركوك منذ عدة أشهر، تلك المحافظة النفطية المتنازع عليها، الا ان خطورة هذه الخطوة الأميركية لا تنفي وجود مخطط ذكي من قبل ادارة الرئيس أوباما.

لندن: نشرت صحيفة نيويورك تايمز افتتاحية اشارت فيها الى وجود دبلوماسي اميركي رفيع المستوى في كركوك منذ أشهر معتبرة ان ارساله الى المنطقة المتنازع عليها يعبر عن ادراك ادارة الرئيس الأميركي باراك اوباما لخطورة الخلاف بين كرد العراق وحكومة رئيس الوزراء نوري المالكي. وجاء في الافتتاحية:

قبل اربعة اشهر ارسلت وزارة الخارجية ، بعيدا عن أضواء الاعلام ، دبلوماسيا متفرغا كبيرا هو الن مايسنهايمر ، للإقامة في مدينة كركوك العراقية النفطية المتنازع عليها. وبالنسبة لادارة اوباما التي كانت تأمل بالانسحاب من انغمارها اليومي في سياسة العراق بما يعتريها من انقسامات ، فإن هذه كانت خطوة ذكية ولو جاءت متأخرة.

كان ذلك اعترافا بأن الخلاف المرير بين الحكومة الاقليمية الكردية في العراق والحكومة المركزية التي يسيطر عليها العرب الشيعة ـ على الأرض والنفط وسلطة الحكومة المركزية ـ هو أخطر خطوط الصدع في العراق اليوم. كما كان إقرارا بأنه إذا أُريد تسوية هذه النزاعات أو على الأقل منعها من إشعال حرب اهلية جديدة فلابد من قيام الولايات المتحدة بدور حاذق ومتواصل.

الكرد والعرب على السواء يدَّعون ملكية كركوك. ويتسبب هذا في تعقيد صنع القرار على المستوى الاتحادي واحيانا في شله ، بما في ذلك قضايا تتعلق بقانون الانتخابات الذي أُقر أخيرا. وكان الاستفتاء على مستقبل كركوك الذي ينص عليه الدستور العراقي ، أُرجئ مرارا لخشية بغداد من اضفاء طابع رسمي على السيطرة الكردية.

في تموز/يوليو اقترب الكرد على نحو خطير من إجراء استفتاء على دستور اقليمي كان من شأنه ان يكرس احاديا سيطرتهم على كركوك. (قررت المفوضية الانتخابية العراقية، بالصدفة ، ان الوقت لا يتيح شمول كركوك بالاقتراع الكردي ، وبادر نائب الرئيس جو بايدن الذي تربطه علاقات قديمة بالكرد الى حثهم على تأجيل الاستفتاء).

كانت هناك مواجهات عسكرية ـ ولكن لحسن الحظ لم تتفاقم الى نزاع فعلي ـ بين القوات الكردية والعربية. ويتحين عرب سنة يرتبطون بتنظيم quot;القاعدةquot; الفرص لاستغلال هذه الاحتقانات.

لا يمكن ترك الوضع ينحدر بذاته. وعلى واشنطن ان تجعل من الواضح انها لن تقبل انفصال الكرد أو استحواذهم على كركوك ، وان هذا وذاك سيعني نهاية الدعم الاميركي لهم. وعلى بغداد ان تجري مفاوضات حسنة النية بشأن المنطقة المتنازع عليها وتتوثق من حصول الكرد على نصيب عادل من عائدات النفط. ولكن على الكرد ان يتخلوا عن أي احلام بالسيطرة على عائدات المنطقة النفطية بأكملها. وتقدر الولايات المتحدة ان اقليم كردستان يحوي 10 الى 15 في المئة من احتياطات العراق النفطية في حين ان منطقة كركوك تحوي نسبة تصل الى 25 في المئة.

منذ نهاية حرب الخليج كانت واشنطن راعي الكرد الرئيسي والمدافع عنهم ومصدر تمكينهم في بعض الأحيان. ولحماية الكرد من صدام حسين فرض حلف شمالي الأطلسي منطقة حظر جوي على شمال العراق وساعد الكرد في بناء منطقتهم ذات الحكم الذاتي ـ من الناحية العملية دولة داخل دولة معرفة عموما باسم اقليم كردستان.

وخلال الهجوم الاميركي عام 2003 استعانت ادارة بوش بميليشيا البشمركة الكردية كقوة تعمل بالوكالة عنها وأطلقت يدها للتوسع أبعد من حدود الاقليم التي كانت قائمة عام 1991. كما تدَّعي الحكومة الكردية التي تسيطر رسميا على ثلاث محافظات ، ملكية مدن وبلدات في ثلاث محافظات أخرى خارج حدود الاقليم. واصبحت هذه الدعاوى اشد اصرارا مع اقتراب موعد انسحاب القوات القتالية الاميركية الذي قرر اوباما ان يكون في آب/اغسطس عام 2010.

وإذ لم يتبق إلا ثمانية أشهر على هذا الموعد فان لدى المسؤولين الاميركيين ـ في العراق وواشنطن ـ الكثير مما ينبغي عمله للتخفيف من حدة التوترات بين الكرد وباقي العراق. وأدناه عدد من أشد القضايا الحاحا:

انتخابات 2010. تطلب الأمر ان تقوم اميركا بالكثير من لي الأذرع لحمل العراقيين على تجاوز خلافاتهم (بما في ذلك الخلاف على مَنْ له حق التصويت في كركوك) وإقرار قانون الانتخابات التي تحدَّد الآن موعد اجرائها في آذار/مارس. وستكون الانتخابات محكا لديمقراطية العراق الوليدة واحد المستلزمات المطلوبة لرحيل القوات الاميركية في الموعد المقرر. وعلى المسؤولين الاميركيين ان يضغطوا على السياسيين العراقيين كي يتفادوا خلال الحملة الانتخابية نمط الخطابية الاطلاقية ذات الأساس الاثني التي من شأنها ان تجعل التوصل الى اتفاقات بعد الانتخابات عملية صعبة.

بعد انتخابات 2005 احتاج العراقيون الى أشهر للاتفاق على حكومة. ويتوقع خبراء ان يطالب القادة الكرد بتنازلات تتعلق بكركوك في اطار صفقة لاختيار رئيس الوزراء ونوابه. فان النظام السياسي أقوى الآن في العراق ولكن يبقى على المسؤولين الاميركيين في هذه المرحلة الحرجة ان يكونوا مستعدين لاستدراج العراقيين ، وإذا اقتضت الحاجة دفعهم الى تشكيل حكومة والمضي قدما.

كركوك. ان عقودا من الانتهاكات المريعة التي ارتكبها صدام حسين ـ بما في ذلك قتل آلاف الكرد بالسلاح الكيمياوي في حلبجة عام 1988 ـ كانت سببا لعدم ثقة الكرد ونقمتهم. وقام صدام بتهجير آلاف من الكرد والاقليات الأخرى من المنطقة وتوطين عرب بدلا منهم. ولا يجيز هذا بشكل حتمي للكرد ان يدعوا ملكية أكثر من 12 بلدة وقرية متنازعا عليها في ثلاث محافظات حدودية هي كركوك ونينوى وديالى.

النزاع الأشد ضراوة يدور على مدينة كركوك متعددة الأعراق ومحافظتها. (تحاول الحكومة الكردية تعزيز مطالبها بتشجيع مزيد من الكرد على الانتقال اليها). وفي نيسان/ابريل قدمت الأمم المتحدة تقريرا الى المسؤولين العراقيين تطرح فيه معالم حلول ممكنة بينها مقترح بأن تصبح كركوك اقليما ذا حكم ذاتي يديره الكرد والعرب والتركمان.

بسبب الأجواء المشحونة لم يُنشر التقرير وقرر المسؤولون الاميركيون ان الفرصة ليست متاحة لإجراء مفاوضات جدية قبل الانتخابات. وبعدها يتعين عليهم ان يضغطوا بسرعة على جميع الأطراف لاطلاق عملية ذات مصداقية من اجل حل النزاع.

وإذا تعذر التوصل الى اتفاق مبكر على كركوك فينبغي ان تفكر الحكومات الثلاث كلها ـ بغداد والكرد وواشنطن ـ في فترة تُوضع خلالها كركوك بعهدة إدارة خارجية ، قد تكون بقيادة الأمم المتحدة. وينبغي إلا يُجرى استفتاء إلا للمصادقة على حل تم التوصل اليه عن طريق المفاوضات.

الموصل. البؤرة الساخنة الأخرى هي محافظة نينوى والموصل مركز المحافظة. فالكرد أقلية قوية ولكن بعد مقاطعة السنة انتخابات 2005 في المحافظة ظفر الكرد بالسيطرة على حكومتها. وحتى قبل ذلك كانت الحكومة الاقليمية الكردية تسعى الى إيجاد quot;حقائق على الأرضquot; باقامة مكاتب أمنية وحواجز تفتيش تديرها قوات البشمركة في العديد من القرى.

تغير ميزان القوى هذا العام عندما شارك السنة في انتخابات مجلس المحافظة وفازوا بأكثرية المقاعد ثم جردوا الكتلة الكردية التي جاءت بالمرتبة الثانية من كل المناصب والامتيازات. ومنذ ذلك الحين استمرت الاحتقانات في التفاقم. على الولايات المتحدة والأمم المتحدة تكثيف جهود الوساطة ، وعلى الحكومات المحلية الخاضعة لسيطرة العرب ان تمنح الكرد والأقليات الأخرى نصيبا مشروعا من السلطة. ويتعين دمج الميليشيا الكردية بالجيش الاتحادي وقوات الشرطة المحلية.

النفط. ثمة تاريخ طويل وراء النزاعات على الأرض ولكن هناك الكثير من المال موضع الرهان ايضا. وعلى امتداد عامين اخفقت الحكومة المركزية في اقرار قانونين مهمين ـ قانون يحدد مبادئ ادارة الموارد النفطية وآخر ينص على صيغة لتقاسم عائدات النفط بين بغداد والاقاليم. وقد تحدى الكرد سيطرة بغداد بتوقيع أكثر من 30 عقدا نفطيا ودفعوا النزاع شوطا ابعد في تشرين الأول/اكتوبر بوقف تصدير النفط من كردستان ما لم تدفع بغداد مستحقات الشركات العالمية التي تضخ النفط من المنطقة. وكانت الحكومة المركزية التي تجبي العائدات النفطية رفضت الدفع لأنها ترى ان العقود التي وقعت مع كردستان عقود غير قانونية.

يجب ان يكون من الأولويات التوصل عن طريق المفاوضات الى حل ربما بالارتباط مع كركوك لمنح جماعات العراق الاثنية ضمانة أكبر بشأن حصتها من الثروات وتخفيف مشاعر الغضب التي ما زال بامكانها ان تمزق وحدة البلد.

السلاح. قبل ان يكون بمقدور الولايات المتحدة الرحيل عن العراق عليها ان تستمر في بناء الجيش العراقي. وسيتعين عليها من أجل هذه الغاية ان تبيعه أو تعطيه معدات أحسن ، بما في ذلك دبابات وربما طائرات نفاذة عالية الأداء. إذ من الضروري ان يكون العراق قادرا على الدفاع عن نفسه في منطقة محفوفة بالمخاطر. ولكن اي بناء من المحتم ان يُذكي مخاوف الكرد من امكانية استهدافهم. وسيكون على واشنطن ان تحدِّد وتيرة شحناتها بعناية وتصر على ضمانات بأن هذه المعدات لن توُجَّه ابدا ضد اي عراقيين.

يحتاج القادة العراقيون الى ايجاد حلول لهذه القضايا على وجه السرعة. وعلى ادارة اوباما ان تعمل بجد لتمهيد الطريق الى اتفاقات في وقت ما زال نفوذها الدبلوماسي مشفوعا بقوات على الأرض. وينبغي ان يكون هدف اميركا الأول انسحابا منتظما يترك وراءه عراقا لديه فرصة للبقاء موحدا وسيدا وديمقراطيا. ولواشنطن حق مبرر في تعاون الكرد المطلوب لتحقيق ذلك.