واشنطن: في يومه الثاني من بدء مهامه الرئاسية، انتقل الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى مقر وزارة الخارجية ليعلن من هناك تسمية المبعوثين الخاصين للشرق الأوسط (جورج ميتشل) George Mitchell، ولباكستان وأفغانستان (ريتشارد هولبروك) Richard Holbrooke، ليديرا أهم قضيتين على أجندة السياسة الخارجية الأميركية في الوقت الحالي، وذلك وفق الرؤية الجديدة التي وعد بها أوباما أنصاره في حملته الانتخابية والتي تعلي من شأن الأمل وليس الخوف Hope over fear والتعاون والتعددية وليس الأحادية Multilateralism not Unilateralism.
لكن زيارة أوباما التي جاءت في الثاني والعشرين من شهر يناير الماضي حملت أيضًا في طياتها رسائل تنبيه وأجراس إنذار للدبلوماسيين الأميركيين تذكرهم بحجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم والتحديات الكبيرة التي تنتظرهم لتجاوز نتائج ثماني سنوات عجاف (2001-2008) هي فترة تولي الرئيس السابق جورج بوش.
ثقة غير محدودة في قدرات هولبروك
وكما يبدو فإن الرئيس أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون يضعان ثقة كبيرة في هولبروك -67 عامًا- لإدارة الجبهة المركزية في الحرب على الإرهاب حيث وصفه الرئيس الأميركي بأنه واحد من أكثر الدبلوماسيين الموهوبين في جيله. وقالت عنه صحيفة نيويورك تايمز New York Times : quot;إن اختياره يعني اختيار 45 عامًا من الخبرة في السياسة الخارجية والدبلوماسية. وعنه قالت هيلاري (رئيسته) كما ناداها هولبروك في خطاب قبول المنصب: إنه سيكون مبعوثًا خارقًا، إذ سيتولى تنسيق جهود الأجهزة الحكومية المختلفة ما بين مجلس الأمن القومي والوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID ووزارتي الدفاع (البنتاغون) والخارجية لتحقيق الأهداف الاستراتيجية الأميركية في المنطقة.
ويشتهر هولبروك بـ ( البلدوزر) لقدرته على إحضار زعماء حرب لطاولة المفاوضات. فقد لعب دورًا مميزًا في المفاوضات الماراثونية التي جرت في قاعدة دايتون العسكرية في ولاية أوهايو مع الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش، والتي انتهت بتوقيع اتفاق السلام في البوسنة عام 1995 الذي يعتبر من أبرز إنجازات الدبلوماسية الأميركية. وقد أشاد الإعلام الأميركي بقدرات هولبروك في المناورة حينها وبقدراته غير المحدودة وإصراره على أن تفاوضه مع ميلوسوفيتش لم يكن خيارًا خاطئًا بالرغم من ارتكابه جرائم حرب، مبررًا ذلك عام 1999 بالقول: quot;إذا كان بإمكانك منع موت أناس ما زالوا على قيد الحياة فإنك لا تسيء إلى الذين قتلوا بالفعل أثناء محاولتهم فعل ذلكquot;.
وتبدو ملامح التوجه الجديد الذي ستنتهجه إدارة أوباما حيال الجبهة المركزية للحرب على الإرهاب والمناطق القبلية على الحدود الباكستانية الأفغانية بشكل خاص في الإقرار بأن مفاتيح الاستقرار في أفغانستان والراحة في كابول تستقر في إسلام آباد ولهذا يجب أن تتعاون الحكومتان معًا لطرد عناصر تنظيم القاعدة وفلول حركة طالبان وهو ما يتطلب استراتيجية أميركية شاملة تربط بين أفغانستان وباكستان وتسمح بإشراك حلف شمال الأطلنطي quot;الناتوquot; وتعاون الدول الإقليمية مثل الهند والدول الآسيوية المركزية مثل الصين أو حتى روسيا، حسبما جاء في كلمة هيلاري يوم تعيين هولبروك.
هل هي مهمة مستحيلة؟
وقد انطلق هولبروك في أولى جولاته الخارجية في جنوب آسيا منذ بضعة أيام عملاً بمقولة أوباما وكلينتون: quot;لا وقت لدينا لكي نضيعهquot;، فما الذي ينتظره هناك؟ ينتظر هولبروك هناك: تطرف مسلح، إعادة بناء مؤسسات الدولة في أفغانستان، ودعم حكومة ديمقراطية ضعيفة في باكستان، تلك ملخص ما سيواجهه هولبروك في مهمته الصعبة كما وضعها الباحثان كارين فون هيبل Karin Von Hippel وفريدريك بارتون Frederick Barton بمشروع إعادة البناء بعد الصراعات Post-Conflict Reconstruction Project بمعهد الدراسات الاستراتيجية والدولية Center for Strategic and International Studies (CSIS) في مقال لهما.
وتشير أحدث الإحصاءات الواردة إلى أن أفغانستان تحتل المركز رقم 176 في القائمة الدولية للفساد، وذلك من بين 180 دولة في العالم، كما تظل الأولى في العالم في إنتاج مادة الأفيون التي تعتبر المادة الخام المستخدمة في صناعة الهيروين.
أما باكستان التي كان يعول عليها كثيرون لإصلاح جارتها وإعادة الأمن لها فأصبحت هي نفسها تمثل أزمة أمنية خطيرة حتى وصفتها وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايتMadeleine Albright بأنها المصدر الأول الذي يهدد الأمن العالمي. وحسب تقرير صدر مؤخرًا لمعهد باكستان لدراسات السلام Pakistan Institute of Peace Studies المتخصص في مراقبة الإرهاب، فإن 8 آلاف شخص لقوا مصرعهم في باكستان عام 2008 بسبب الهجمات الانتحارية والتفجيرات الإرهابية، بما يعني أن باكستان ستكون محطًّا للأنظار في الفترة القادمة بشكل أكبر - ربما - من أفغانستان.
وفي هذا السياق يمكن تفسير الهجمات الصاروخية التي شنتها طائرات أميركية بدون طيار على مناطق قبلية باكستانية يوم الثالث والعشرين من يناير الماضي أي بعد ثلاثة أيام فقط من تولي أوباما الرئاسة.
ويشرح هيبل وبارتون في مقالهما بنود الاستراتيجية الشاملة التي تضمن النجاح في هذا التحدي الكبير، وهي تتكون من أربعة عناصر وهي تجنيد كافة أدوات السياسة الخارجية الأميركية لهذا الغرض بما يشمل محاور الدبلوماسية والتنمية والأنشطة العسكرية، إشراك حلفاء أميركا الرئيسيين (الدول الأعضاء في حلف الناتو والحلف ذاته ككيان والأمم المتحدة) وأيضًا القوى الإقليمية (الهند وإيران والصين وروسيا والسعودية) والأهم هو التزام حكومتي كابول وإسلام آباد والشعبين الأفغاني والباكستاني بالعمل سويًّا من أجل غد أفضل وتكوين مجموعة اتصال تستخدم التنمية لتحقيق الاستقرار، من خلال العمل على نشر اتفاقيات التجارة الإقليمية وتشجيع التجارة عبر الحدود.
وفي تحليله للتغيرات التي يجب أن تطرأ على السياسة الأميركية فيما يخص الجبهة الباكستانية الأفغانية، قال جون وايتسايدز John Whitesides على موقع وكالة رويترز الإخبارية Reuters: quot;إن الرئيس أوباما أمر بإعادة النظر في الاستراتيجية الأميركية تجاه أفغانستان ووضع خطة شاملة لا تقتصر على زيادة عدد القوات الأميركية هناك فقط بل تشمل محوري الدبلوماسية والتنمية إلى جانب المحور الدفاعي أو العسكري.
وفي هذا السياق، وعدت واشنطن إسلام آباد بمزيد من الدعم غير العسكري الذي سيتم توجيهه لتنمية المناطق القبلية على الحدود مع أفغانستان التي استقر فيها مقاتلو القاعدة وطالبان، لكن هذه المساعدات لن تمر دون ضغوط، فقد عمدت الإدارة الأميركية إلى تصعيد الضغوط على إسلام آباد لمحاربة الإرهاب عقب وقوع هجمات مومباي التي قتلت 170 شخصًا وأثارت توترًا حادًّا في العلاقات بين الجارتين النوويتين.
نقطة أخرى يركز عليها وايتسايدز اهتمامه في مقاله التحليلي وهي أن حل النزاع الباكستاني الهندي حول كشمير قد يجعل إسلام آباد تتفرغ للتركيز في أفغانستان قائلاً: إنه يتعين على البيت الأبيض أن يقرر إلى أي مدى يود أن يتدخل في هذا النزاع.
أما بروس أو رايدل Bruce O. Riedel الخبير في شؤون جنوب آسيا والباحث بمركز سابان لدراسات الشرق الأوسط بمعهد بروكينجز، فيصف الوضع الحالي في باكستان وأفغانستان بأنه quot;معتم وكئيبquot; بما يتطلب من هولبروك أن يبذل جهودًا مضنية لتغيير المسار السلبي للتطورات الحادثة هناك والتي تتمثل في تغيير النجاحات العسكرية التي تحققها عناصر طالبان في أفغانستان وإغلاق ملاذاتهم الآمنة داخل الأراضي الباكستانية.
ويؤكد رايدل في حوار نشر على موقع مجلس الشؤون الخارجية Council on Foreign Relations أن دفع الحكومة الباكستانية للتعاون في تحقيق هذه الأهداف سيكون أكثر تحديات هولبروك صعوبة وقد يكون التحدي الأبرز الذي سيواجه السياسة الخارجية الأميركية في عهد باراك أوباما.
وذكر رايدل أن العلاقات بين الرئيس الباكستاني آصف على زرداري ونظيره الأفغاني حامد كرزاي هي علاقات جيدة لكنها تحتاج إلى أن تترجم إلى نتائج ملموسة على الأرض في الحدود المشتركة بين بلديهما.
ويرى رايدل والذي عمل سابقًا في المخابرات المركزية quot;CIAquot; ووزارة الدفاع ومجلس الأمن القومي أن الجيش الباكستاني يفتقر للإمكانيات التي تؤهله لخوض حرب ناجحة ضد المتمردين سواء من حيث التدريب أو التسليح، بما يعطي الفرصة للولايات المتحدة أن تعرض مساعداتها على إسلام آباد في هذا الصدد لكي تمدها بالمهارات التدريبية والتسليحية المطلوبة وبشكل خاص طائرات الهليكوبتر.
أما بالنسبة لأفغانستان، فقال رايدل إن قرار إرسال مزيد من الجنود الأميركيين إلى هناك هو قرار صائب على الرغم من تكلفته الباهظة بشريًّا وماليًّا لكن يظل المطلوب في النهاية هو بناء الجيش الأفغاني من حيث التدريب والتسليح. ولكن كيف يرى هولبروك نفسه الوضع؟
واقعية تخلو من اليأس
quot; هذه هي الحرب التي لا يمكن أن نخسر فيها؛ لأننا إذا فشلنا ستعود كل من القاعدة، وطالبان مجددًا. نحن لن نخسر في أفغانستان؛ لأن الشعب يكره طالبان، بل إننا لن نكسب؛ لأن الحكومة ضعيفة للغاية، وفاسدةquot;. هذه الكلمات قالها هولبروك في أحد حواراته في يوليو 2008، فهل تغيرت الرؤية بعد أن انضم للإدارة الأميركية؟
في كلمته القصيرة بوزارة الخارجية عندما أعلن رسميًّا أنه سيشغل منصب المبعوث الخاص لباكستان وأفغانستان، قال هولبروك: quot;إن التكليف صعب، معددًا التحديات التي سيواجهها في البلدين المختلفين كليةً حيث يحمل كل منهما تاريخًا مختلفًا عن الآخر إلا أن الجغرافيا والانتماء العرقي والأحداث الجارية تربط مصيرهما ببعضquot;. وبينما قال هولبروك: إن هناك إجماع على أن الحرب في أفغانستان لم تمض بالشكل الذي يرام، فإنه أكد أيضًا أن الوضع في باكستان معقد إلى ما لا نهاية.
وفي مقالة مطولة وجهها هولبروك إلى الرئيس الأميركي الجديد قبل الانتخابات الرئاسية عبر مجلة quot;الشؤون الخارجية quot; Foreign Affairs التي تصدر عن مجلس الشؤون الخارجية Council on Foreign Relations في عددها عن سبتمبر/أكتوبر 2008، قال: إن جملة من التحديات الدولية تنتظر خليفة جورج بوش ولم يسبقها مثيل منذ الحرب العالمية الثانية. ومضى في شرح وجهة نظره قائلا: إن الرئيس الجديد سيرث قيادة أمة هي الأقوى في العالم تتجه إليها الأنظار وقت الأزمات على أمل إيجاد الحلول المناسبة، لكنها تحتاج إلى إعادة تشكيل سياساتها لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية ومنها ضرورة ممارسة مزيد من الضغوط على تنظيم القاعدة وخاصة في باكستان.
وأكد هولبروك في مقالته أن حرب أفغانستان كانت فشلاً حقيقيًّا مؤكدًا أن المعركة تتطلب إرسال مزيدٍ من الجنود للمناطق الشرقية والجنوبية، مشيرًا إلى أن فوز حركة طالبان ليس عسكريًّا بل عن طريق القدرة على البقاء والقيام بعمليات هجومية بما يعرقل نجاح الحكومة المركزية في كابول ويحشد المتطرفين في العالم كله للانخراط في صفوف المقاتلين.
لكن وبرغم هذا الرصد الواقعي الذي يبعث على التشاؤم، أكد هولبروك أن الأمر ليس ميئوسًا منه ولكن على الأميركيين أن يدركوا حقيقة أن حرب أفغانستان ستستمر لمدة طويلة ستطول عن أطول الحروب التى خاضتها أميركا في تاريخها وهى حرب فيتنام التي استمرت أربعة عشر عاما كاملة (1961-1975).
استراتيجية النجاح كما وضعها هولبروك قبل توليه منصبه الحساس ببضعة أشهر تلخصت في أربع مشكلات هي المناطق القبلية الباكستانية ولوردات المخدرات الذين يهيمنون على النظام الأفغاني الحاكم والشرطة الوطنية وفساد حكومة كرزاي، إلا أن التحدي الأكثر صعوبة من وجهة نظره هو منطقة القبائل الباكستانية على الحدود مع أفغانستان. وقال: إن مواجهة التمرد في أفغانستان، لن تكفي وحدها لضمان مستقبل آمن لكابول، فالاتفاقيات الإقليمية مع شركاء مهمين في المنطقة مهمة؛ لكي تجعلهم جزءًا من الحل.
ويتفق هولبروك مع ما جاء في مقالة وردت بصحيفة quot;نيويورك تايمزquot; New York Times وقتها حول أن الفشل الأكبر لإدارة بوش كان في حرب أفغانستان إذ استطاعت طالبان نقل قاعدتها من أفغانستان إلى المناطق القبلية الباكستانية حيث أعادت بناء ذاتها. فهل تساعد هولبروك مثابرته ومهاراته التفاوضية لتحقيق تغير ملموس على الأرض؟ ربما يجب أن ننتظر شهورًا عديدة لكي نجد الإجابة.
دبلوماسي محنك.. إنجازاته تتحدث عنه
ولد هولبروك في الرابع والعشرين من إبريل عام 1941 في ولاية نيويورك، وحصل على البكالوريوس من جامعة براون ولديه ابنان أحدهما يعمل بقناة quot;إن بي سيquot;. وبدأ مشواره الدبلوماسي الذي يمتد طوال 25 عامًا ـ أي ربع قرن- بالعمل في فيتنام ثم خدم مساعدًا لوزير الخارجية لشؤون شرق آسيا والباسيفيك في إدارة جيمي كارتر، كما عمل مساعدًا لوزير الخارجية للشؤون الأوروبية لمدة عامين (1994-1996) في عهد بيل كلينتون ليصبح الدبلوماسي الأميركي الوحيد الذي شغل منصب مساعد وزير الخارجية لمنطقتين مختلفتين هما: أوروبا وآسيا، وذلك قبل أن يصبح مبعوثًا خاصًّا للبوسنة وكوسوفو ولاحقًا سفيرًا لدى الأمم المتحدة (1999-2001)، كما رشح لنيل جائزة نوبل للسلام سبع مرات.
وكان هولبروك يدعم هيلاري في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي لاختيار مرشح الرئاسة حيث عمل مستشارًا رفيعًا لديها في السياسة الخارجية، وكان مرشحًا لأن يشغل منصب وزير الخارجية في أي إدارة ديمقراطية تأتي للبيت الأبيض سواء إذا فازت كلينتون أم أوباما.
وبخلاف عمله الدبلوماسي، ترأس هولبروك منظمة quot;مجتمع آسياquot; Asia Society المعنية بالشؤون الآسيوية وعمل مديرًا لبنك quot;ليمان برذرزquot; الاستثماري كما كان رئيس التحرير التنفيذي لمجلة quot;الشؤون الخارجيةForeign Policy quot; التي يصدرها معهد كارنيجي للسلام الدولي Carnegie Endowment for International Peace. ومن مؤلفاته كتاب حمل عنوان quot;من أجل إنهاء حربquot; كما شارك في تأليف كتب أخرى.
التعليقات