بيروت: يَـروي دبلوماسي عربي بارز، أنه خلال زيارة قام بها بداية شهر مارس إلى واشنطن لاستطلاع طبيعة السياسة الشرق أوسطية الجديدة في عهد إدارة الرئيس أوباما، فوجئ بأن كِـبار المسؤولين الأميركيين يطرَحون (هم) عليه الأسئلة، بدل تقديم الإجابات، وهي أسئلة قلِـقة على وجْـه التحديد.
على سبيل المثال، سأله مسؤول في مجلس الأمن القومي الأميركي: هل تعتقِـد أن مصر والأردن ستستطِـيعان الصُّـمود، اقتصادياً واجتماعياً، خلال هذه السنة؟ ولكن، لماذا هذا القلق الأميركي على مصر والأردن تحديدا؟
تأثيرات الأزمة العالمية
مصادِر دبلوماسية في بيروت، غربية هذه المرة، توضِّـح أن هذا القلَـق نابِـع من المُـضاعفات المُـحتملة للأزمة الاقتصادية العالمية على بعض الدّول العربية، التي تلعب دوراً سياسياً واستراتيجيا كبيراً في الشرق الأوسط.
وتضيف أن كُـلاً من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ستغرقان هذه السنة، وربما إلى ثلاث وحتى خمسِ سنوات، في لُـجج الأزمات المالية والاقتصادية في داخل بلدانها، الأمر الذي قد لا يمكِّـنهما من مواصلة quot;تمويلquot; سياساتهما في المنطقة العربية.
وتحدِّد المصادر على وجه الخصوص، مصر والأردن في خانة الدول التي ستكون أكثر عُـرضة لخفض المساعدات عنها، الأمرُ الذي قد تكُـون له مضاعفات اجتماعية كُـبرى في هذين البلدين، اللذين يعتمدان بشدّة على هذه المساعدات.
فمصر تتلقّـى في شكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر نحو 3 بلايين دولار من الولايات المتحدة منذ توقيع اتفاقيات كامب ديفيد عام 1989، أما الأردن، الذي يُـعتبر أيضاً شحِـيح الموارد الاقتصادية للغاية، يعتمِـد هو الآخر على المساعدات الأميركية والأوروبية، وكذا الأمر بالنسبة للسلطة الفلسطينية في رام الله، حيث أن أوروبا مُـموِّلها الرئيسي.
وتوضِّـح المصادر أن الأزمة مرشّحة للتّـفاقم، لأن الدول الخليجية الحليفة لواشنطن، لن تستطيع هي الأخرى تقديم يَـد العون، لأنها أصلاً خسِـرت نحو ثلث أو حتى نِـصف ثروتها بعد الانهيارات المصرفية والعقارية الأخيرة في الولايات المتحدة.
وتتخوّف المصادر من نُشوب اضطرابات اجتماعية في مصر شبيهة بما حدث في عام 1977 أو في الأردن في مناسبات عدّة منذ أوائل القرن الحادي والعشرين، وتقول إنه في حال حدثت انهيارات في مصر والأردن، فإن كلّ الصّـرح الاستراتيجي الأميركي والغربي برمّـته في الشرق الأوسط، سيتعرّض إلى مخاطر جمّـة.
مصر تتمخّـض
هذه الصورة القاتِـمة في واشنطن لمستقبل بعض دُول الشرق الأوسط، تُـقابلها صورة أكثر قتامة في مصر. فالإضرابات هناك باتت تتكرّر في الآونة الأخيرة بوتيرة سريعة بين فئات اجتماعية مختلفة، تطالب بتحسين مستوى معيشتها، من عمّـال المصانع وموظّـفي الحكومة إلى أساتذة الجامعات، وهي تتّـسم بسِـمات جديدة غير مألوفة، كخروج الموظفين بنسائهم وأطفالهم للاعتصام في الشارع أيّـاماً متتالية، حتى تُـستجاب مطالبهم، ثم أن بعض هذه الإضرابات تحدُث لأسباب غير معتادة من المصريين، كالاحتجاج على مشروع لإقامة مصنع مُـلوِّث للبيئة (كالذي يحدث الآن في دمياط ورأس البر)، وهكذا، لم تعد المطالبة قاصِـرة على تحقيق مكاسب مادية مباشرة، ثمّ أن الأعداد التي تشترك في الإضرابات، أكبر من المُـعتاد وتنمّ عن تنظيم مُـسبق أكثر إحكاماً أيضاً من المألوف.
وتظهر أيضاً مطالبة غير مألوفة باشتراك المصريين جميعاً في الإضراب، بصرف النظر عن نوع أعمالهم أو فئاتهم الاجتماعية، وذلك بأن يلزموا بيوتهم لا يبرحونها، فلا يذهبون إلى أعمالهم أو مدارسهم وكلياتهم ليوم واحد، فتكاد تتوقّـف الحياة في شوارع القاهرة في هذا اليوم، وتغلق المحلات التجارية أبوابها ويخاف الآباء والأمهات على أبنائهم، ممّـا قد يحدُث من المتظاهرين أو من رجال الأمن، فلا يرسلون أولادهم وبناتهم إلى المدارس، وتلي وقوع هذا الإضراب بأيام قليلة، دعوة إلى إضراب جديد مماثل.
في أثناء ذلك، ترتفع أسعار السِّـلع الأساسية ارتفاعاً شديداً، لا تقوى على مواجهتها ملايين الأسَـر الفقيرة، فيعُـم السُّـخط ويتبادل الناس الشكاوى، بدلاً من تبادل التحية، ويتساءلون عمّـا حدث لينتج كل هذا البلاء ومن المسؤول عن كل هذا العناء.
وتنتشر ظاهرة جديدة بين الفقراء المصريين، وهي الاستغناء عن وجبة من الوجبات الثلاث، فيؤجِّـلون تناول طعام الإفطار إلى الضحى، والغداء إلى قرب الغروب، ويكتفون بهذا القدر من الطعام.
سيناريوهات التغيير
الدكتور جلال أمين، المفكر والباحث الاقتصادي المصري البارز، الذي يسجِّــل عن كَـثب هذه المتغيِّـرات في مصر، يطرح أسئلة من العِـيار الثقيل من نوع هل النظام المصري له دخل في أزمة بنيوية عميقة تتطلب حلاً جذرياً؟ وهل يمكن أن يؤدّي كل هذا إلى ثورة شعبية أو إلى تغيير جذري في النظام؟
ثم يُـجيب بالآتي: أولاً، النظام المصري يمُـر بالفعل بأزمة عميقة، تتعلّـق بالأصول والجذور، وليست سطحية أو عابرة، هذا أمر لا شكّ فيه، فالنظام المصري مُـفلس، اقتصاديا واجتماعيا وسياسياً، بمعنى عجزه التام عن تحقيق الوعود التي دأب على إعلانها على الناس منذ تولِّـي الرئيس محمد حسني مبارك الحُـكم منذ 27 عما، والإصلاح الاقتصادي، الذي أعلن عنه بعد شهور قليلة من مقتل أنور السادات في شهر أكتوبر 1981، واتَّـفق عليه أكبر خبراء الاقتصاد المصريين في مؤتمر مشهور عُـقد في فبراير 1982، سرعان ما وضع على الرفّ، وطبّـق بدلاً منه ابتداء من 1991، برنامج يسمّـى أيضاً بالإصلاح الاقتصادي، ولكنه مفروض على مصر فرضاً من صندوق النقد الدولي، وهو ما أدّى إلى مزيد من تدهور معدّلات التنمية وسحب يد الدولة مما تقدِّمه من دعم للفقراء، فتدهورت أحوالهم الاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عما أدّى إليه بيع مشروع بعد آخر مشروعات القطاع العام من تفاقم مشكلة البطالة.
وليس لدى النظام اليوم ما يباهي به في الميدان الاقتصادي، إلا تدفّـق الاستثمارات الأجنبية الخاصة بمعدّل أعلى منه في أي وقت مضى، لكن تدفّـق هذه الاستثمارات لا تصحِّـح الاقتصاد، إذ أنه يتركّـز في قطاعات البترول والخدمات، بدلاً من الصناعة والزراعة، ولا عجب بعد ذلك أن يقترن ارتفاع معدّل النمو في الناتج القومي في السنتين الأخيرتين، بزيادة أعباء الناس، بدلاً من تخفيفها، وزيادة شعورهم بالفقر.
كذلك، نكث النظام بوعوده بإعادة الحريات السياسية والفردية إلى الناس، بعدما أخذها السادات منها قُـبيل وفاته، فلم تتحقّـق آمال الشعب في انتخابات نظيفة، وفي صحف حكومية تعبر تعبيراً صحيحاً عن أفكار الناس ومشاعرهم وفي وسائل إعلام أقرب إلى نبض الشعب وفي إلغاء قانون الطوارئ وفي الكفّ عناعتقال الناس جزافاً وفي تنفيذ أحكام القضاء واحترام القانون.. الخ، وبدلاً من كل ذلك، انهمك النظام في التمهيد لنقل السلطة من الرئيس إلى ابنه. لكن، هل يُـمكن أن يؤدّي هذا كله إلى ثورة شعبية أو إلى تغيُّـر جِـذري في النظام؟
يرد د. جلال: إجابتي تتلخّـص في أن ما يحدث الآن في مصر، ومنذ سنة 2004، يمكن أن يعتبر هو نفسه من قبيل laquo;الثورة الشعبيةraquo;، بل يمكن القول أنه بمعنى من المعاني، أقرب إلى أن يكون حركة شعبية، مما حدث في 23 يوليو1952 . فالذي يحدُث في مصر الآن، ليس انقلاباً عسكرياً تحوّل مع مرور الأيام إلى ثورة، كما حدث في عام 1952، ولكنه مجموعة من الانتفاضات الشعبية المتكررة تحدث على فترات متزايدة القِـصر وتتميّـز بالتلقائية، وإن لم تقترن بكثير من العنف وتنتشر في أنحاء مختلفة من الوطن، فلا تقتصر على العاصمة أو المدن الكبرى. وهل يمكن أن تتحوّل هذه الانتفاضات المتكررة إلى ثورة شاملة تؤدّي إلى تغيير جذري في النظام؟
يجيب الدكتور جلال: أعتقد، آسفاً، أن هذا التغيير يتوقف على عامل آخر، ليس من المؤكد توفره، وهو ملاءمة الظروف الخارجية لهذا التغيير أو بعبارة أوضح، يتوقف على موقف الولايات المتحدة بالذات من هذا التغيير. إن هذه الحقيقة (أو ما أعتقد أنه حقيقة)، لا تنطبق فقط على مصر، بل على دول أخرى كثيرة، ويكفي أن نشير إلى التغيرات التي حدثت في دول كثيرة من العالم منذ سقوط الاتحاد السوفييتي) بما في ذلك سقوط الاتحاد السوفييتي نفسه)، والتي باركتها ودعمتها الولايات المتحدة في دول شرق أوروبا ووسطها وفي إفريقيا وفي البلاد العربية الأخرى، ولاسيما العراق.
نعم، لقد قامت منذ ذلك التاريخ حركات مستقلة، تتحدّى الإدارة الأميركية في بعض دول أميركا اللاتينية وفي ماليزيا، ناهيك بما يحدث في الصين، ولكن لا أعتقد أن الظروف في مصر الآن تشبه الظروف السائدة في هذه الدول الأخيرة، مما يجعل التنبؤ بتغير جذري في النظام المصري وفي الاتجاه المأمول، مفرطاً في تفاؤله.
احتمالات سوداوية .. وآمال الناس
هناك احتمالان آخران، هما للأسف أيضاً، أقرب إلى التحقق من الاحتمال السابق، ومنافيان تماماً للآمال التي نعلقها على هذه الانتفاضات الأخيرة:
الاحتمال الأول: أن تشتدّ قبضة جهاز الأمن، فتعامل قوى المُـقاومة المصرية مُـعاملة أقسى وأعنف، مما هو جارٍ الآن، وأن يتم ذلك بتأييد ودعمٍ كاملٍ من الولايات المتحدة، التي تولّـت مهمة حماية النظام منذ منتصف السبعينيات وحتى الآن، أي طوال نحو ثلث قرن.
الاحتمال الثاني: أن يتمّ تغييرٌ كبيرٌ في النظام، قد يبدو للناس أنه في الاتِّـجاه المأمول، وتُـبذل جهود كبيرة لإظهاره على هذه الصورة، دون أن تكون الحقيقة كذلك وأن يتم هذا التغيير أيضاً بتأييد ودعم كامل من الولايات المتحدة، على أساس أن النظام الحالي لم يعُـد يقوم بالوظيفة المطلوبة منه في خدمة الولايات المتحدة وإسرائيل، بالكفاءة المطلوبة، وأن أضراره، في نظر هاتين الدولتين، أصبحت تفوق منافعه.
في ظل هذا الاحتمال الثاني، يمكن جداً أن تتحسَّـن بعض الأمور المهمّـة لفترة قصيرة، مما يُـحقِّـق للناس بعض آمالهم التي انتظروا تحقيقها طويلاً،وتُـتَّـخذ بعض الإصلاحات التي طالت مطالبة الناس بها، ويستعان بوجوه جديدة، أكثر تمتعاً بقبول الناس ورضاهم، دون أن ينطوي هذا كله على تغيير في مسار السياسة الخارجية أو الاقتصادية أو العربية أو في الموقف تجاه إسرائيل. وإذا تحقَّـق هذا الاحتمال الأخير، المشؤوم مثل سابقه، يكون الشعب المصري قد وقع مرّة أخرى في فخّ خديعة أخرى، قد تضيّع من عمره سنوات كثيرة أخرى.
ويختم د. جلال أمين قائلاً: quot;هناك في النهاية احتمال آخر أفضل كثيراً، يتّـفق مع الآمال الحقيقية للناس ويخلق فرصاً حقيقية أمام مصر، للتقدّم والازدهارواستقلال الإرادة، ولا عيب فيه، إلا أنه يحتاج، في رأيي، إلى مرور فترة طويلة قبل أن يتحقق، وهو أن تنمُـو قوة دولية موازية للقوة الأميركية ومعطلة لإرادتها، فتخلق لمصر ولدول أخرى كثيرة في الجزء المقهور في العالم، فرصا جديدة للتقدّم وللتعبير الحقيقي عن إرادة الناس، كما حدث مرّتين على الأقل في مصر في تاريخها الحديث: الأولى، في عهد محمد علي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، والثانية، في فترة قصيرة من عهد عبد الناصر، ما بين الاعتداء الثلاثي في 1956 وهزيمة 1967.
ليس معنى هذا أنه لا طائل وراء حركات الاحتجاج والمقاومة الدائرة في مصر الآن، إذ أن هذه الحركات ليست فقط دليلاً على أن الروح لم تفارق الجسد بعد، بل إنها هي التي تضمن استمرار الحياة، حتى يحين وقت أفضل وظروف أقل بؤساً. ويبقى السؤال: هل ثمّة تقاطع ما بين مخاوف عضو مجلس الأمن القومي الأميركي وبين توقّـعات الدكتور أمين؟ حتماً، وهي تشي بأن الأمر الواقع الرّاهن في مصر (وربما الأردن)، غير مرشّح للاستمرار كثيراً.
سعد محيو
التعليقات