واشنطن: تصاعدت في الآونة الأخيرة وتيرة الإشارات الإيجابية على الرغبة في التقارب من جانب الولايات المتحدة تجاه سوريا، والتي استقبلتها الأخيرة بمزيج من التجاوب والتعبير عن الرضا والأمل في مزيدٍ من التقارب مع الإدارة الأميركية الجديدة. وبعد سنوات كانت فيها دمشق عاصمة دولة معزولة بالعقوبات الأميركية والدولية، صارت العاصمة السورية فجأة قبلة لزيارات رفيعة المستوى ليس فقط من قيادات أميركية بل من قيادات أوروبية وعربية كذلك. وهو ما يُشير إلى احتمال تدشين مرحلة جديدة من العلاقات الأميركية ـ السورية تقوم على أساس التفاهم والتنسيق، خاصة فيما يتعلق بالقضايا الإقليمية ذات الأولوية وعلى رأسها الانسحاب من العراق ودفع المفاوضات الإسرائيلية ـ الفلسطينية والإسرائيلية ـ السورية والملف النووي الإيراني وحماية استقلال لبنان.
والواقع أن إدارة الرئيس السابق بوش قد أدركت أهمية الدور السوري في هذه القضايا، وهو ما انعكس في عدد من الزيارات رفيعة المستوى لسوريا مثل تلك التي قامت بها رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي والرئيس الأسبق جيمي كارتر، إضافة إلى دعوة سوريا لحضور مؤتمر أنابوليس الذي استضافته الولايات المتحدة في 27 نوفمبر 2007 لدفع عملية السلام في الشرق الأوسط. ولكن الواضح أن الأمر يختلف هذه المرة بالنظر إلى وعود الرئيس أوباما الانتخابية بالتفاوض مع جميع الأطراف ذات الصلة في الشرق الأوسط، بما فيها سوريا وإيران، إضافة إلى فشل سياسات بوش القائمة على منطق الضغط لتحقيق تغيير إيجابي.
إشارات إلى الرغبة في التقارب
هناك جملة من المؤشرات التي تشير للتقارب الأميركي ـ السوري، منها قيام وفدين من الكونغرس أحدهما برئاسة جون كيري رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، والمرشح الديمقراطي لانتخابات الرئاسة عام 2004، والمعروف عنه أيضًا أنه من المقربين للرئيس أوباما، والآخر برئاسة هوارد بيرمان Howard Berman، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب، الذي زار دمشق في21 من فبراير الماضي، التقى الوفدان خلال زياراتهما بالرئيس السوري بشار الأسد ونائبه فاروق الشرع، وأعربا عقب زيارتهما عن تفاؤلهما بمستقبل العلاقات مع دمشق، ووجها الدعوة لسوريا كي تستغل الفرصة السانحة للتقارب مع الولايات المتحدة.
كما دعت الولايات المتحدة السفير السوري لديها عماد مصطفي للقاء مع مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى جيفري فيلتمان Jeffrey Feltman. هذا وقد زار الأخير العاصمة السورية. وفيما يتعلق بالعقوبات قدمت الإدارة الأميركية إشارة إيجابية من خلال قيام وزارة التجارة الأميركية بالسماح لشركة بوينج Boeing بإبرام عقد مع الحكومة السورية لإصلاح طائرتين من طراز 747 تابعة لأسطول الخطوط العربية السورية.
وتتمحور المطالب الأميركية حول ضرورة أن تقوم سوريا بدور إيجابي لإحداث تقارب بين حركتي فتح وحماس وتشكيل حكومة وطنية فلسطينية للتفاوض مع إسرائيل، والتوقف عن مساندة حركتي حماس وحزب الله، وإنهاء تحالفها مع إيران والتدخل في الشؤون اللبنانية، والتعاون لتحقيق الاستقرار في العراق. ومن جانبها رحبت سوريا بالتقارب مع الولايات المتحدة، وأعرب الرئيس السوري بشار الأسد في مقابلة مع إيان بلاك Ian Black محرر شؤون الشرق الأوسط بصحيفة الجارديان البريطانية عن اقتناعه بأن إدارة أوباما ستكون مختلفة عن سابقتها، وأعلن عن رغبته في مقابلة الرئيس الأميركي.
كما أعلن الأسد ترحيبه بأن يقوم الجنرال دافيد باتريوسDavid Patreus ، رئيس القيادة المركزية للجيش الأميركي، بزيارة سوريا، وهي إشارة إلى استعداد سوريا للتعاون العسكري مع الولايات المتحدة خاصة فيما يتعلق بالعراق. وأعلن الأسد كذلك توقعه أن يعيد أوباما إرسال السفير الأميركي لدمشق.
وعلي الجانب الآخر كان استعداد الإدارة الأميركية للتقارب واضحًا منذ الحملة الانتخابية للرئيس أوباما. وقد أعلن أوباما قبل خمسة أيام من تنصيبه رئيسًا للولايات المتحدة لشبكة الـCBS أنه ينوي العمل من اليوم الأول للتحاور مع سوريا وإيران. كما أكدت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون في جلسة الاستماع بالكونغرس لاعتمادها في منصبها الجديد أن الإدارة ستتجه سريعًا للحوار مع إيران وسوريا. إلا أن هذا لم يمنع الإدارة الأميركية من اتخاذ موقف متحفظ تجاه مستقبل العلاقات مع سوريا، ربما من قبيل انتظار مواقف عملية من الحكومة السورية. فجورج ميتشل المبعوث الخاص للشرق الأوسط لم يتوقف بسوريا خلال جولته الأولى بالمنطقة. كما صرحت وزيرة الخارجية الأميركية أنه من المبكر الحديث عن تنقية الأجواء بين الولايات المتحدة وسوريا، وصرح المتحدث باسم الخارجية الأميركية روبرت وود Robert wood أنه لن يتم تطبيع العلاقات مع دمشق حتى تستجيب للمطالب الأميركية الرئيسة، بما في ذلك التوقف عن التدخل في الشؤون اللبنانية.
لماذا سوريا؟، ولماذا الآن؟
خرجت مؤخرًا عديد من الكتابات في الولايات المتحدة التي تدعو لضرورة التقارب مع سوريا، واستغلال الفرصة السانحة التي هيأها جو التفاؤل الذي صاحب مجئ إدارة أوباما التي وعدت بدبلوماسية نشطة وفتح حوار مع جميع الأطراف. وفي هذا السياق كتب ريتشارد هاس Richard Haas، رئيس مجلس العلاقات الخارجية Council on Foreign Relations، ومارتين إنديك، مدير مركز سابان لسياسة الشرق الأوسط Saban Center for Middle East Policy بمؤسسة بروكينجز Brookings، مقالة بعدد يناير/ فبراير 2009 من مجلةForeign Affairs حول استراتيجية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط في المرحلة القادمة. وفيما يتعلق بسوريا أكد الباحثان أن تقدم جهود التسوية بين سوريا وإسرائيل من شأنه إضعاف العلاقة بين سوريا وإيران ومن ثم تقليص الدعم الخارجي لحماس وحزب الله، ودعم استقرار لبنان كنتيجة لذلك. وسيكون من شأن إبعاد سوريا عن إيران تقليص النفوذ الإيراني بالمنطقة.
ويؤكد هاس وإنديك على أن تقدم جهود السلام بين سوريا وإسرائيل ممكن بالنظر لأن سوريا قد سعت بالفعل للتفاوض مع إسرائيل، وتمثلت آخر هذه الجهود في قناة التفاوض غير المباشر من خلال الوساطة التركية منذ العام الماضي، والتي توقفت مؤقتًا بسبب الحرب الإسرائيلية على غزة. ويرى الباحثان أنَّ هذا السعي السوري كان مدفوعًا بالرغبة في التقارب مع واشنطن وتفادي أن يصل النظام السوري لمرحلة لا يجد فيها سوى إيران كحليف أساسي في إطار المحور السني ـ الشيعي الذي صار يقسم المنطقة. وعلى الجانب الآخر يشير هاس وإنديك لاستعداد إسرائيل للتنازل عن هضبة الجولان في إطار ترتيبات أمنية مقابل السلام مع سوريا.
ويشير هاس في مقالة بمجلة النيوزويك الدولية Newsweek في عدد 9 من مارس (2009) أن سياسة عزل سوريا التي تبنتها إدارة بوش قد أضعفت النفوذ الأميركي دون أن تضعف الحكومة السورية.
كما يرى سيمون تيسدال Simon Tisdall في مقالة بالجارديان نشرت يوم 24 من فبراير الماضي أن إدارة أوباما يمكن أن تستخدم التقارب مع سوريا للضغط على حكومة نتنياهو لكي تتخذ مواقف أكثر اعتدالاً يسمح بمواصلة عملية السلام. ويرى تيسدال Tisdall أن إدارة أوباما يمكن في مقابل التجاوب السوري أن تقوم بتخفيف العقوبات وتقديم ضمانات أمنية وصولاً إلى تطبيع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية.
وفيما يتعلق بالحال الزمني للتقارب بين الولايات المتحدة وسوريا، يرى ماثيو برودسكي Matthew Brodsky في مقالة بالواشنطن تايمز Washington Times أن سوريا في حاجة للخروج من دائرة الحصار الدولي المفروض عليها منذ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، إضافة إلى تضييق الخناق عليها من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي تتشكك في طموحاتها النووية.
عقبات وحلول
رغم وضوح الرغبة في التفاهم لدى إدارة أوباما والحكومة السورية، إلا أن هناك عديدًا من العقبات التي يمكن أن تعترض طريق التفاهم. أحد أهم هذه العقبات هي العلاقة بين سوريا وإيران، والتي يصعب أن تتخلى عنها سوريا دون ضمانات أميركية، إضافة إلى الميراث الطويل من العلاقات العدائية بين البلدين الذي خلف ترسانة من القيود النفسية والإدارية والقانونية التي يمكن أن تعيق التقارب.
وفي هذا السياق أصدرت مجموعة الأزمات الدولية International Crisis Group دراسة تناولت فيها الفرص والتحديات التي تواجه الولايات المتحدة في سبيل التقارب مع سوريا. ويمكن إجمال أهم العقبات التي أشارت إليها الدراسة في النقاط التالية:
1- هناك أزمة ثقة بين الولايات المتحدة وسوريا تمتد جذورها إلى ما قبل إدارة بوش.
2- هناك إرث من الإجراءات التي اتخذت ضد سوريا مثل قرار مجلس الأمن 1559 وتشكيل المحكمة الدولية للتحقيق في اغتيال رفيق الحريري وقانون محاسبة سوريا الذي وافق عليه الكونغرس عام 2003. وسيكون من الصعب تجاهل هذه التركة، وعلى إدارة أوباما أن تتخذ إجراءات تدريجية للتخفيف من العقوبات على سوريا استنادًا إلى تجاوبها مع المساعي الأميركية.
3- هناك اتفاق عام في واشنطن على رفض التدخل السوري في الشأن اللبناني، خاصة مع تزايد تأييد حركة 14 من آذار المطالبة باستقلال لبنان في دوائر صنع القرار الأميركي. وسيتطلب الأمر أن تعيد سوريا هيكلة علاقتها مع لبنان وبناء جسور الثقة معها.
4- سوف يكون من الصعب على سوريا إعادة هيكلة علاقاتها مع إيران وحماس وحزب الله، خاصة أن تأزم الوضع الإقليمي وتصاعد الضغوط على سوريا في الوقت الراهن يجعل من الصعب عليها الابتعاد عن دائرة التأثير الإيراني.
5- إن القوى العربية التي توصف بالمعتدلة أو التقليدية، وعلى رأسها مصر والسعودية، ربما تجد في غير صالحها حدوث تقارب بين سوريا والولايات المتحدة، خاصة بعد أن اصطدمت هذه الأطراف مع سوريا خلال الحرب الإسرائيلية على غزة.
6- إن التعاون مع سوريا من أجل تحقيق الاستقرار في العراق لم يعد يحظى بأولوية في واشنطن بالنظر لسيادة القناعة بأن الوضع في العراق صار مستقرًّا لحد بعيد.
وأشارت الدراسة إلى مجموعة من النقاط الهامة في التقارب الأميركي ـ السوري، أجملتها الدراسة في:
1- يجب أن تساند واشنطن إحياء مفاوضات السلام على جميع المسارات.
2- فيما يتعلق بالمفاوضات السورية ـ الإسرائيلية، يجب أن تؤكد الولايات المتحدة أن أية اتفاقية بين الطرفين ينبغي أن تشتمل على الانسحاب الإسرائيلي من مرتفعات الجولان في إطار ترتيبات أمنية وتطبيع العلاقات بين البلدين.
3- عدم تدخل الولايات المتحدة في سير التحقيقات في اغتيال رفيق الحريري أو تتساهل مع تدخل سوريا في الشؤون اللبنانية.
4- التأكيد على أن الولايات المتحدة لا ترغب في زعزعة استقرار النظام السوري.
5- التأكيد على أن الولايات المتحدة ستتجاوب مع أية خطوات إيجابية تتخذها سوريا.
ويبقى القول: إن بوادر التقارب بين الولايات المتحدة وسوريا ما تزال في بداياتها، وسوف تتوقف إلى حد بعيد على سياسات الحكومة الإسرائيلية ونتائج الانتخابات الرئاسية في إيران الصيف القادم وإمكانية إحداث تقارب بين الأنظمة العربية خاصة في مصر والسعودية وقطر وسوريا.
التعليقات