واشنطن: يتمثل الهدف الرئيسُ للولايات المتحدة في أفغانستان وباكستان، طبقًا للرئيسِ الأميركي أوباما، في هزيمة تنظيم القاعدة وعرقلة وتفكيك ملاجئه الآمنةَ في البلدين. وستحقق الولايات المتحدة هذا الهدف عبر خمس مهام، هي: إرباك الشبكات الإرهابية القادرة على شن هجمات دولية، الترويج لحكومة فعَّالة ومسئولة في أفغانستان، تعزيز قوات الأمن الأفغانية بحيث يمكنها الاعتماد على ذاتها، دفع باكستان نحو السيطرة المدنية عبر حكومة دستورية مستقرة، دفع المجتمع الدولي للمساعدة في تحقيق هذه الأهداف تحت رعاية الأمم المتحدة.

وهنا تأتي المقالة التي أعدها ستيفن سايمون Steven Simon ـ الباحث في شئون الشرق الأوسط بمجلس العلاقات الخارجية، والذي خدم في مواقع عديدة في مجلس الأمن القومي ـ لمجلة quot;الشئون الخارجيةquot; Foreign Affairs عدد يوليو/ أغسطس 2009 لتدفع بأن أهداف إدارة أوباما أكثر تواضعًا من أهداف سابقتها برئاسة جورج بوش الابن الذي سعى لتحويل أفغانستان إلى دولة ديمقراطية وسلمية بغض النظر عمَّا يستغرقه تحقيق ذلك الهدف من وقت، وهو ما رفضه أوباما باعتباره هدفًا غير واقعي، وأن واشنطن لا يمكنها إعادة بناء أفغانستان لتصبح دولة ديمقراطية. إلا أن إدارة أوباما تبدي قدرًا أكبر من الالتزام، ففي حين كانت إدارة بوش تضع سقفًا لنشر القوات الأميركية في أفغانستان فقد أمر أوباما بإرسال 21 ألف عسكري أميركي إضافي، وبحلول منتصف عام 2010 سيتم زيادة القوات الأميركية الموجودة في أفغانستان بمقدار الثلث تقريبًا.

أكد أوباما خلال حملته الانتخابية على أن الحرب على العراق كانت quot;الحرب الخاطئةquot; وأن الحرب في أفغانستان ضد تنظيم القاعدة هي quot;الحرب الصحيحةquot;. فقد ساد الاعتقاد بأن أفغانستان أصبحت مركزًا للإرهاب العالمي ومصدرًا دائمًا للخطر على الولايات المتحدة ما لم يتم القضاء على طالبان، ومن ثم فقد كان من المتوقع أن تقترح الإدارة مراجعةَ سياستها بعد 60 يومًا من توليها زيادة الاستثمارات العسكرية والاقتصادية في أفغانستان. وفي الوقت الحالي يتم نقل الاهتمام من العراق إلى أفغانستان بشكل جيد، وسوف يتجاوز إجمالي الإنفاق السنوي في أفغانستان قريبًا مثيله في العراق (65 مليار دولار لأفغانستان مقابل 61 مليار للعراق في ميزانية العام 2010).

دروس الماضي

يدور الجدل في الوقت الحالي حول ما إذا كانت أفغانستان سوف تتحول إلى فيتنام أخرى بالنسبة لأوباما، أم أن سياسة واشنطن تجاه أفغانستان الآن أضحت توازن بين مصالح واشنطن ومواردها. وتتناول المقالة هذا الجدل عبر التعرض إلى كتابين. الأول حمل عنوان quot;في مقبرة الإمبراطورياتquot; In the Graveyard of Empires إعداد سيث جونز Seth Jones الباحث في مؤسسة راندRand Corporation الذي يستعرض حالات إساءة التقدير والحماقات التي وسمت التحرك الأميركي في أفغانستان حتى الآن مع التأكيد على أن سجل واشنطن لا يبشر بالنجاح. أما الكتاب الثاني جاء تحت عنوان quot;فدائي الصدفةquot; The Accidental Guerrilla، الذي أعده ديفيد كيلكولينDavid Kilcullen الضابط السابق في الجيش الاسترالي، ليعرض استراتيجية مكافحة التمرد في أفغانستان دافعًا بأنها تزيد فرص النجاح الأميركي هناك.

وفي معرض هذا الجدل تشير المقالة إلى أنه في أعقاب الغزو الأميركيِ مباشرة تم تحقيق بَعْض النجاحاتِ، وهو ما يرجعه جونز Jones إلى وجود مجموعةِ متميزة من الأشخاص في مواقع المسئولية، ومن أبرز الأمثلة التي تشير إليها المقالة في هذا الصدد زلماي خليل زاد Zalmay Khalilzad، الذي عين سفيرًا للولايات المتحدة بعد ذلك، موضحة أنه من مواليد مدينة مزار الشريف وكان لديه التزام شخصي بتحسِينِ الوضع في أفغانستان، كما كانت لديه حساسية بالنسبة للخصوصية الاجتماعية والثقافية لأفغانستان، كما توفرت لديه قدرة وموهبة للعمل مع النظراء العسكريينِ، ومن ثم تمكن من تشكيل فريق عمل ناجح مع الجنرالِ ديفيد بارنو General David Barno القائد العسكري الأميركي آنذاك. وقد انتهى هذا الثنائي الناجحِ بسبب حرب العراق. فقد تم تعيين زلماي خليل زاد Zalmay Khalilzad للعمل في العراق، فيما نقل الجنرالِ ديفيد بارنو General David Barno إلى وزارة الدفاع الأميركيةِ. وتم استبدالهما بالسفير رونالد نيومان Ronald Neumann والجنرال كارل إيكنبري Karl Eikenberry وكان ذلك اختيارًا غير موفق على الإطلاق طبقًا لما يراه جونز.

وتحت عنوان quot;حرب همجية من أجل السلامquot; تؤكد المقالة أن الوصف الدقيق الذي يقدمه كيلكولن Kilcullen لمعايير نجاح استراتيجية مكافحة التمرد في أفغانستان، والتي يرى أنها تدلل على أن الولايات المتحدة تتبع استراتيجية رابحة، يترك تأثيرًا عكسيًّا؛ إذ تثير تساؤلاً حول إذا ما كان يمكن للولايات المتحدة، أَو أيّ دولة أخرى أَن تشن حملة ناجحة في مكان مثل أفغانستان حاليًا.

الغايات والوسائل

الغريب أن أيًّا من الكتابين لا يوضح لماذا لا تزال الولايات المتحدة متورطة في أفغانستان بهذا الشكل، فيشير جونز Jones إلى أنه اختار دراسة أفغانستان بسبب أهميتها للولايات المتحدة، وهو يشير إلى أمور عاطفية من قبيل اشتياق الأفغان إلى الأمن والأمل بعد عقود من الحروب المستمرة إلا أنه لا يُفسر السبب وراء حاجة الولايات المتحدة لمساعدتهم في تحقيق ذلك. أما كيلكولن Kilcullen فيشير إلى مصالح الولايات المتحدة والمجتمع الدولي في أفغانستان، لكنه لا يوضح هذه المصالح، أي إنه يؤكد على أن أفغانستان تُعد في الوقت الحاضر مسرحًا لمجابهة الإرهاب التكفيري العالمي، وأن باكستان ستكون مركزًًا لهذا الإرهاب في المستقبل المنظور مما يجعل أفغانستان الجبهة الرئيسة في هذا الإطار، لكنه لا يستفيض في توضيح العلاقة بين باكستان والإرهاب العالمي، فضلاً عن إنه إذا كانت باكستان هي مركز الإرهاب العالمي فإن كون أفغانستان هي quot;الجبهة الرئيسةquot; تبدو فكرة غير لائقة.

ويرى الكاتب أنه في ضوء العلاقة الضعيفة بين عدم الاستقرار في أفغانستان من جانب والتهديد الخطير بحدوث حالة من عدم الاستقرار في باكستان، تؤشر إلى أن اللحظة قد حانت للعمل على إنقاذ عمل البعثة الأميركية في أفغانستان، وذلك من خلال تبني استراتيجية ذات نطاق أضيق تركز على بؤر التهديدات الفورية على الولايات المتحدة. ومن ثم، فإذا الاهتمام الرئيسي يتعلق بالإرهاب، لذا يجب على واشنطن أن تركز على التخلص من قيادة تنظيم القاعدة عبر غارات الطائرات بدون طيار، وقد حدثت أغلب هذه الضربات في شمال وجنوب وزيرستان على عمقِ 25 ميل في الأرض الباكستانية.

وتُؤكد المقالة على أنه من الممكن تحقيق نصر كامل على القاعدة في باكستان. مشيرة إلى أن إدارة أوباما قررت بعد ثالث يوم من تسلم عملها المضي قدمًا في تحقيق ذلك، ولعل النظر إلى ميزانية السنة المالية لعام 2010 توضح أن هناك توجهًا نحو زيادة استعمال الطائرات بدون طيَّار، حيث تتضمن هذه الميزانية طلب إنفاق 79.7 مليون دولار على 792 قذيفة نارية أي ضعف الأرقام الموجودة في ميزانية عام 2009.

تجدر الإشارة إلى أنه من الصعب الآن على أي مهاجمين دخول الولايات المتحدة عما كان الحال في 2001، فقد أصبحت نظم الإنذار الأميركية أقوى كما أن المؤسسات الاستخباراتية والتنفيذية أضحت تتشارك المعلومات فيما بينها على نحو أفضل، إلا إن هذا لا يعني أن الولايات المتحدة أصبحت غير معرضة للخطر، بل يعني أن إجراءات مواجهة أي الهجمات الإرهابية أضحت أكثر فعالية وقدرة على القضاء على قيادات القاعدة في باكستان، ومن ثم أفضل قدرة على تحسين أوضاع الأمن القومي الأميركي، وهو ما لا يمكن القول أنه حقيقي بالنسبة لجهود الولايات المتحدة لبناء الأمة في أفغانستان.

جوهر القضية

تستنتج المقالة أن الكتابين يقللان التوقعات حول فرص نجاح عملية بناء الأمةَ في أفغانستان، وذلك عبر تأكيدهما على عدد من الحقائق، منها: أن الأفغانيين يستاءون من الاحتلال أيًّا كان وأنهم سيظلون يُقاومونه، الخصوم على درجة عالية من المهارة والخبرة، والحكومة الأفغانية (التي تقوم الولايات المتحدة بالحرب نيابة عنها) توسم بأنها فاسدة وتفتقد للثقة من قبل غالبية إن لم يكن كافة الأطراف.

وفي تفسير ذلك تلفت المقالة الانتباه إلى ما يراه كيلكولن Kilcullen حول أن تحقيق النصر في أفغانستان يحتاج إلى مدة تتراوح بين خمسة إلى عشرة سنوات على أقل تقدير، وذلك حتى يمكن بناء دولة ومجتمع مدني أفغانيين قويين قادرين على التواجد الشرعي والفعال في كافة الأراضي الأفغانية.

وفي السياق ذاته تُشير المقالة إلى أن صناع السياسة والاستراتيجيين الأميركيين ما يزالون حتى الآن مغرمين بفكرة الجنرال الصحيح، أَو الاستراتيجية الصحيحة، أَو الوسيلة الصحيحة، فضلاً عن الاعتقاد السائد (وإن كان غير مثبت) بأن استراتيجية quot;الاندفاعquot; التي اتبعتها الولايات المتحدة في العراق سيصعب مقاومتها في أفغانستان. إلا أن الكاتب يدحض ذلك الاعتقاد بالتأكيد على الاختلافات بين العراق وأفغانستان كبيرة، والاستراتيجيات التي كانت فعالة في الأولى لن تكون بالضرورة قابلة للتطبيق في الثانية. فحتى الآن لا يمكن تقسيم الفاعلين في أفغانستان بين قوى الخير والشر، على نحو يمكن استغلاله (كما كان الحال في العراق). كما أن الغالبية العظمى من السكانَ الأفغان ريفيون ومفرقون في أنحاء البلاد بشكل كبير؛ فضلاً عن أن تركيب النظام العشائريِ يجعل من غير المحتمل تكوين الائتلافات لمحاربة القاعدة، وأن أي تحالف يمكن تكوينه في الوقت الحاضر سيكون موجهًا ضد الوجود الأجنبي في البلاد.

من الجدير بالذكر أن كاتب المقالة يعطي قدرًا كبيرا من الاهتمام بباكستان، دافعًا بضرورة تركيز صانعي القرار في واشنطن على التعامل معها أكثر من التركيز على عملية إعادة بناء الأمة في أفغانستان. وهنا فهو يؤكد عبر المقالة على أن تصاعد القومية الباشتونِية وبروز طالبان في باكستان يرتبطان بالوجود الأميركي أكثر من ارتباطهما بأي شيء أو عامل آخر. وهو يؤكد كذلك أنه بالرغم من أنَّ الأمر يستحق عناء محاولة إقناع القيادةِ الباكستانية بأن طالبان (وليس الهند) هي التهديد الأكبر لبلادهم فإن احتمالات النجاح بهذا الخصوص ليست مضمونة، فمن غير المحتمل إقناع قيادةَ الجيش الباكستاني بأن أفضل طريقِ لحماية مصلحة باكستان الاستراتيجية هي التخلي عن الحلفاء الجهاديين الذي ترجع العلاقة بينهم وبين إسلام آباد لعقود طويلة. ويدفع الكاتب بأنه في أي الأحوال، فإن تأسيس مجموعات من الأفغان داخل باكستان هو الذي يشكل الخطر الأكبر على الولايات المتحدة (وليس وجود طالبان الأفغانية)، وعليه فإن مشروع بناء الأمة في أفغانستان يبدو أمرًا جانبيًّا وغير مهم على نحو كبير من وجهة نظره.

فن الممكن

وفق الكاتب يبدو أن الولايات المتحدة تدور حتى الآن في حلقة مفرغة، ففي مواجهة تنظيم القاعدة الذي تستضيفه طالبان، فالولايات المتحدةَ تعمق تدخلها في أفغانستان وباكستان. أما القاعدة وطالبان فتردان على الوجود الأميركيِ بأعمال العنف التي تزعزع الاستقرار، وترد الولايات المتحدة، من ثم، بزيادة ضغوطها على نحو أكثر حدة، الأمر الذي يزيد الإصابات بين المدنيين و يكرس حالة عدم الاستقرار العام ومن ثم يؤدي إلى إضعاف حكومتي كابول وإسلام آباد، الأمر الذي يُفيد القاعدة وطالبان. وسيتضح بل ويتفاقم الأمر بشكل كبير في باكستان إذا لم تتمكن الحكومة من استيعاب مئات آلاف الباكستانيين الذين نزحوا أو هُجروا بسبب الحملة العسكرية في quot;سواتquot;.

وحتى الآن تصر إدارة أوباما على الاحتفاظ ببعض حرية المناورة، مؤكدة أنها تقوم بتقييم مستوى التقدم بعناية قبل إرسال المزيد من القوات. كما أن المسئولين لا يزالون يحاولون استكشاف سبل إجبار باكستان على الرضوخ والتعاون في القيام بضربات جوية، لكي يستمر استنزاف القاعدة وإفقادها التوازن.

إن القلق بشأن قدرة باكستان على التعامل مع طالبان أمر طبيعي لاسيما أن طالبان مهووسة بفكرة سيطرة الجهاديين على باكستان. إلا أن تلك الفكرة، ممكن أن تتحول من وهم إلى هدف قابل للإنجاز. فالجيش الباكستاني ضخم، وحسن التجهيز ويطِيع الأوامر ولديه جاهزية عالية لخوض الحرب، أما المخابرات الباكستانية، فعلى الرغم من ميولها المكيافيلية، فمن المحتمل أَن تقوم بإعطاء أو نقل أسلحةَ نووية إلى طالبان.

وعليه، فإن واشنطن في تخطيطها للمرحلة المقبلة للسياسة الأميركية في المنطقة، عليها أن تتذكر هذه القيود على طموحات طالبان في باكستان، كما يجب عليها أن تضع في اعتبارها محدودية القدرة الأميركية على إعادة هندسة السياسة والمجتمع في أفغانستان.